خالد البرى
هل كان عنتر وعبلة، أو قيس وليلى، أو جميل وبثينة، يلتقون فى الخفاء، ويخاطرون بمخالفة القبيلة،
ويعرضون أنفسهم للخطر، لكى يتحدثوا معا عن مانشيتات الصحف؟ أبدا.
أكيد كانوا يفعلون كما تفعل بنات وشباب إلى اليوم، فى المنطقة من العالم
التى لا تزال تتداول أخبار عنتر وعبلة القديمة. يتجنبون فض العذرية، لكنهم يتمتعون بما دون ذلك.
محاولة الإيحاء بأن الحب العذرى، كان عذريا فعلا، رغم كل الأوصاف التى فيه عن حلاوة الثغور
وغيرها من الأوصاف الحسية، ليست إلا مساومة. بمعنى أنها -إلى جانب أخواتها-
إيحاء بأن المحدثين أتلفوا «نقاء» القديم. وبالتالى فمن الأفضل أن نحاول جاهدين
العودة إلى «نموذج القديم»، حيث «البراءة» و«الطهر» و«النقاء».
لاحظى الكلمات بين قوسين. لاحظى أننا يمكن أن نصف نفس الفعل
بأنه «الكبت» «الوسوسة» «النفاق».
لذلك لا يحب أنصار القديم أن يقروا بما حدث بين عنتر وعبلة وغيرهما من المشاهير.
لا يحبون أن يقروا بأن نظام الفصل الذى رسخوه كان مخترقا. ولا شك أنه كان مخترقا
من أشخاص آخرين، لا بد أن رعاة غنم عاديين عاشوا قصص حب مثيلة، واخترقوا الأعراف اختراقات مثيلة،
لا بد أن تجارا فعلوا مثلهم، لا بد أن بعض كبار القبيلة فعلوا مثلهم.
لكن قصصهم طواها النسيان. لأنهم لم يحيطوها بفن.
بقى لنا فقط حكايات الفنانين، الشعراء. لماذا؟ لأنهم ملكوا وسيلة جمالية أخرى تُبقى على الحكاية.
وتقف فى وجه القمع. الجمال قوة، وهى أقوى كثيرا كثيرا من الاستبداد.
الفن أبقَى قصص هؤلاء. وأبقَى لنا حسا إنسانيا أصيلا. وجعلنا نتغنى به.
هل يمكن أن يكون هذا سببا آخر من أسباب كراهية أنصار القديم للفنون؟ بلا شك.
أنصار القديم يحبون أن ينفردوا برواية التاريخ. يذيعون قصة، عادية، ثم يحيطونها بأغلظ الإيمان
أنها ما حدث. ويهددون من يروى قصة غيرها. بداية من العزل الاجتماعى إلى العزل الدينى. أو أكثر.
ثم يأتى الفن، بما له من سحر، بما له من قدرة على اختراق نفوس الناس،
وتذكيرها بالإنسان الحر، ويتحداهم، ويتحدى روايتهم.
فى كورس درسته عن الفن التشكيلى فى «الناشونال جاليرى» فى بريطانيا، رأيت هذا.
رأيت كيف حفظ الفن، برسالة واضحة أحيانا، وخفية أحيانا أخرى، نظرة أخرى إلى التاريخ، إلى العادات،
إلى النظرة للأمور. كيف تحدى السلطة الزمانية، وكيف تحدى سلطة رجال الدين.
رأيتُ كيف سخِر ليوناردو دافنشى من مفاهيم كانت شائعة ومستقرة فى زمانه،
وكيف فعل ذلك بمنتهى التخفى. وكيف -على الرغم من ذلك التخفى- أدرك المستبدون الخدعة
وطاردوا اللوحة وطاردوه وقمعوه. لكنها انتصرت عليهم وبقيت، لأنها مست آخرين، وصارت جزءا منهم،
يحافظون عليها ولو هدد ذلك حياتهم. اسألى نفسك. لماذا فعلوا ذلك؟ والإجابة الوحيدة، بسبب جمالها،
بسبب سحرها. لو بقيت الرواية الأخرى خبرا مكتوبا بلغة ركيكة لاندثرت. وما حرص على تخليدها أحد.
غريب الفن. كيف يفعل فى النفوس التى تحبه. غريبة «رسالته»، إن جاز التعبير. يدركها قليلون،
وتحول أقفال بينها وبين كثيرين. لكنها -بمنتهى السلمية- تبقى وتنتصر.
تزدهر فى المجتمعات المتقدمة، وتخبو فى المجتمعات المتخلفة.
فتقدم بهذا أكبر دليل على ارتباطها بـ«النفع» الحقيقى للبشرية. بالتقدم إلى الأمام.
المجتمعات بغير فن يدافع عن «الإنسان الحر» مجتمعات تسير إلى الوراء.
تسير على خطى الروايات الشائعة. وهى روايات المستبدين القدماء التى يدعمها المستبدون الحاليون.