الخطر القادم من الجنوب والذى تغافل عنه الجميع منذ وقت ليس بالقليل تدعمه إجراءات إسرائيلية
محمومة لتثبيت أقدام النفوذ الصهيونى فى منطقة حوض النيل، وهى إجراءات ليست بالجديدة،
لكنها
تصاعدت باستغلال انشغال القاهرة بصراعات الحكم والمعارضة، فتزايدت مظاهر التواجد الصهيونى فى دولة جنوب السودان -أحدث دول حوض النيل- فضلا عن تكريس التواجد فى دول أخرى وخاصة إثيوبيا، وتظهر آثار هذا التواجد فى إجهاض أية محاولة للتوصل إلى حل لأزمة حوض النيل التى اندلعت بتوقيع غالبية دول حوض النيل على اتفاقية عنتيبى، وكان من المقرر أن يشهد شهر مارس الجارى
اجتماعا استثنائيا لمجلس وزراء مياه النيل فى العاصمة الرواندية كيجالى طلبته القاهرة
والخرطوم لمناقشة التداعيات القانونية والمؤسسية للتوقيع المنفرد من قبل دول على اتفاقية عنتيبى،
لكنه تأجل لموعد غير محدد ومن دون سبب محدد، ليظل خطر إمكانية أن تصحو مصر
يوما لتجد أن دول المنبع خفضت من حصتها التاريخية فى مياه النيل بعد 60 عاما
من تقنين هذه الحقوق عبر اتفاقية 1959.
لا ينفصل الحديث عن أخطار اتفاقية عنتيبى لإعادة تقسيم مياه النيل عن ضرورة الانتباه إلى خطورة
التغلغل الصهيونى فى منطقة حوض النيل، وهو الذى سهلت له الفرصة سياسات النظام السابق
تجاه المنطقة وكرسته الصراعات الدائرة فى مصر منذ ثورة يناير، على الرغم من انطلاق
مبادرات شعبية مصرية بعد الثورة لمحاولة استعادة التواجد المصرى فى القارة السمراء،
وفى جنوب السودان بالتحديد أعلن الوجود الإسرائيلى عن نفسه منذ فترة طويلة
وقبل تحولها إلى دولة اقتطع لها جزء ليس بالهين من مساحة دولة السودان
التى كانت حتى وقت قريب واحدة من أكبر الدول العربية من حيث المساحة، وكان الدور الإسرائيلى
واضحا فى تقديم الدعم العسكرى والاستخبارى والأمنى والاقتصادى للجنوبيين فى فترة
الحرب الأهلية مع الشمال، وفى أعقاب الاستفتاء على انفصال الجنوب فى التاسع من يناير 2011
وصل عدد كبير من الخبراء الإسرائيليين إلى عاصمته «جوبا» وقدر عددهم بألف خبير
فى الزراعة والتعدين والاقتصاد والفنون والسياحة والإدارة، وكانت مهمتهم هى البدء
فى تنفيذ الخطط والمشاريع التى تم التخطيط لها منذ زمن بعيد، وكانت الدولة العبرية
أول دولة فى العالم تعترف رسميًّا بالدولة الجديدة وبعد شهر من الانفصال أعلنت تل أبيب
افتتاح سفارة لها بجنوب السودان لدعم العلاقات التطبيعية بين البلدين.
الخطر فى الجنوبوفى دراسة له بعنوان «الوجود الإسرائيلى فى دولة جنوب السودان»
يقول الباحث السودانى محمد الحسن عبدالرحمن الفاضل إن اتفاقية كامب ديفيد، وإقامة مصر
وبعض الدول العربية لعلاقات مع إسرائيل، وتبادل السفراء بينهما، ساعد فى أن تطرح إسرائيل
نفسها بشكل جديد أمام الأفارقة، الذين ساندوا العرب فى حروبهم مع إسرائيل، وقطعوا علاقاتهم معها
منذ احتلالها لشبه جزيرة سيناء، فعادت الدولة العبرية بقوة إلى القارة السمراء حاملة
رسالة مفادها أنها أبرمت اتفاق سلام مع مصر والعرب، وأنه ليس هناك مبرر لاستمرار
الدول الأفريقية فى مقاطعتها، ليبدأ الكيان الصهيونى بعدها فى تنفيذ استراتيجيته
التى تسمى بـ«حلف المحيط» والقائمة على مقولة بن جوريون
«إن على إسرائيل أن تحاصر الدول العربية من خلال الدول المحيطة»، ومقولته أيضاً:
«نحن شعب صغير، وإمكانياتنا ومواردنا محدودة، ولابد من العمل على علاج هذه الثغرة
فى تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية، من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها،
خاصة العلاقات القائمة بين الجماعات العرقية والأقليات الطائفية، بحيث نسهم فى تعظيمها،
لتتحول فى النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها».
ولتنفيذ هذه الاستراتيجية بدأت إسرائيل فى التغلغل فى منطقة القرن الأفريقى وشرق أفريقيا
ومنطقة البحيرات، وفى دول المحيط الغربى للسودان، وذلك لمحاصرة السودان الذى يمثـل
العمق الاستراتيجى لمصر والأمة العربية والإسلامية، والمعبر
الذى يربط العالم العربى والإسلامى بـدول جنوب القارة الأفريقية.
وترى الدراسة أن ما يجرى فى السودان سواء فى إقليم دارفور أو جنوب السودان لا يمكن
أن يكون عملا منعزلا عن واقع السياسة الإسرائيلية فى منطقة الشرق الأوسط، وأن الهدف الأساسى
من هذه السياسات هو مصر، وهو ما تكشف فى وقت سابق عندما ظهرت تفاصيل دراسة
كتبها العميد الإسرائيلى المتقاعد موشى فرجى لمركز دراسات الشرق الوسط فى جامعة تل أبيب
بعنوان «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان، نقطة البداية ومرحلة الانطلاق»،
وقال فيها إن السودان يمثل خطرا على الأمن الإسرائيلى، باعتباره عمقا حقيقيا لمصر
التى هى فى نظر إسرائيل أكبر خطر يتهددها، معتبرا أن الخطر الذى يشكله السودان
بالنسبة لإسرائيل يشبه إلى حد كبير الخطر الذى يمكن أن يشكله العراق.
العلاقات بين «إسرائيل» ودولة جنوب السودان ليست جديدة، وتاريخها الحقيقى
-بحسب الباحث السودانى- يعود إلى عام 1967م، عندما عرض الجنرال جوزيف لاقو لونجا -
مؤسس حركة جنوب السودان- على «إسرائيل» فى ذاك الوقت استعداده لتقديم المساعدة ل
تل أبيب للحيلولة دون اشتراك الجيش السودانى مع الجيش المصرى فى محاربتها،
وعلى الفور وجهت رئيسة الوزراء الصهيونية جولدا مائير الدعوة له لزيارة تل أبيب،
وقامت بتكليف جيش الاحتلال بتدريب أتباعه، وزودتهم بالأسلحة التى يحتاجونها،
وتم تنسيق عملية المساعدات «الإسرائيلية» لجنوب السودان مع كل من كينيا وإثيوبيا.
أدوات ضغطتبدو دولة جنوب السودان استراتيجياً، وفى ظل المتغيرات التى تشهدها المنطقة العربية
وفى القلب منها المصرية، غاية فى الأهمية للدولة العبرية، خصوصاً لجهة تشكيل أداة ضغط
جديدة على مصر فيما يتعلق بحوض النيل، شريان الحياة الرئيسى لمصر، وتشير الدراسة
إلى أن وجود علاقات قوية بين دولة جنوب السودان «إسرائيل» سيفتح الباب أمام تل أبيب
للحصول على مياه نهر النيل وتزيد من فرض سيطرتها عليها، عبر بناء المزيد من السدود
وإقامة المشروعات المائية، كما سبق أن فعلت فى إثيوبيا؛ لتكون ورقة جديدة تلاعب بها مصر
، لتضييق الخناق عليها وابتزازها سياسيًّا واقتصاديًّا، وتضيف أن «إسرائيل» لديها مصالح أمنية
وعسكرية من خلال صفقات بيع الأسلحة التى تدر مبالغ طائلة على الكيان الصهيونى،
فى منطقة القرن الأفريقى وحوض النيل وهى الدول المجاورة للسودان، التى تنعش خزينة
الكيان السنوية بمليارات الدولارات، كما نجح جنوب السودان بمساعدة إسرائيل فى تخزين كمية
كبيرة من الأسلحة العسكرية المتطورة من دبابات وغيرها، وهى كمية كفيلة بأن تكسر
معايير التوازن بين الجنوب والشمال فى أى نزاع مستقبلى قادم.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]