من كام يوم «اكتشفت» أن أسعد لحظات حياتى المدرسية كانت أوقات كتابة موضوع التعبير.
لغاية دلوقتى هى اللحظات المحفورة فى ذاكرتى. كنت شاطر جدًّا فى الفيزياء،
وكنت قادر على حل معادلات تفاضل وتكامل فى عقلى من غير ورقة وقلم.. مش باقول دا تباهيًا.
إنما علشان أقول إنى كنت باحب «مواد تقيلة»، وإن حل «معضلاتها» كان بيمنحنى سعادة برضه.
لكن ماكملتش ناحية الفيزياء والرياضيات ودخلت كلية الطب. وبعدين استقلت من العمل كطبيب بعد سبع سنين دراسة.
مش بسبب الرياضيات ولا غيرها من المواد المحترمة. إنما -دا اللى اكتشفته مؤخرًا- بسبب المادة «التافهة»،
اللى عمرك ما هتسألى تلميذ إنت شاطر فى إيه، فهيحس بالفخر بأنه شاطر فيها.
وإن حاليًا شغلتى أكتب مواضيع تعبير كبيرة شوية.
حتى حبى للمواد التحليلية، الجبر والفيزياء، عبر عن نفسه من خلال «التعبير».
المادة التافهة اللى رسمت حياتى، واللى خلّت اللى بيحبونى يحبونى واللى مش طايقينى مش طايقينى.
بنتى اللى عمرها تمن سنين ونص، نفسها تطلع رائدة فضاء، وبتشترى كتب عن الفضاء
وبتقراها وتتحدانى فى المعلومات. كمان بترقص باليه من وهىّ عندها أربع سنين.
وكنت بازيح لها عفش الشقة الصغيرة علشان تعرف تعمل الحركات الأساسية وهىّ لسه مبتدئة،
وأراجع معاها من ورقة شرح فى إيدى. رغم أن معرفتى بحركات الباليه تشبه معرفتى بقواعد البيسبول.
وكمان بتلعب جمباز. لكن كل ما أشوفها بتعمل أى واحدة منها أعرف أنها بتعمل كويس
بس مش هتكون باليرينا ممتازة ولا بطلة جمباز. هواية بتعلّم الإحساس الموسيقى، وتجميل حركات الجسد،
وبتمتعها. كل سنة باسألها إن كانت عايزة تكمل فى الباليه، فبتقول أيوه. وبطاوعها. المرة الوحيدة
اللى مطاوعتهاش فيها كانت فى أول سنة، لما كانت لسه صغيرة جدًّا ودخلت امتحان الأكاديمية البريطانية
للمبتدئين أول مرة ومانجحتش، وقالت إنها مش عايزة تكمل فى الباليه. ماطاوعتهاش ساعتها،
لأنى خفت إن دا يكون رد فعل للفشل، وإنها تتعوّد على رد الفعل الانسحابى دا طول حياتها.
اتفقنا تجتاز الامتحان وبعدين تبطّل. اجتازته فعلًا ومابطلتش.
لما جت فى ذهنى فكرة مادة التعبير دى سألتها: حبيبى، إيه الحاجة اللى لما بتعمليها بتبقى سعيدة؟
وشددت على كلمة بتبقى سعيدة. فقالت لى: لما باغنى. دى مش أول مرة أسألها. ودى مش أول مرة
تجاوبنى نفس الإجابة. لكن دى أول مرة أسألها وأنا منتبه لأثر مواضيع التعبير فى حياتى.
المهم أدركت أن «الغناء»، الحاجة التافهة اللى مش موجودة على شهادتها، ولا لو حد سألها هتطلعى إيه
هتيجى على بالها، هى أجمل حاجة فى حياتها. ونويت أحاول أُكثر من لحظات سعادتها دى
بأنها تبتدى تتعلم موسيقى. ماعرفش إن كان صوتها حلو ولّا لأ. هخلى أهل الخبرة يحددوا،
لأنها بالنسبة إلىّ أجمل صوت فى الدنيا، إنما أعرف أن الموسيقى ضرورية للغناء، لو كان صوتها حلو
علشان تغنى، ولو صوتها وحش علشان تكتب أغانى وتلحنها، وتحقق جزءًا لا بأس به من سعادتها.
كلنا مشدودون ناحية خيالنا. اللى بيطاوعوه ويجتهدوا علشان يحققوه بيضيف لحظوظهم من السعادة،
واللى بيستسلموا وييأسوا أو مش واعيين بيعيشوا من غير لحظات سعادة كان ممكن تكون من حظّهم. دى حاجة.
الحاجة التانية أن عالمنا الشخصى، زى عالمنا الواسع، بيبدأ من نقطة صغيرة جدًّا، تافهة وتايهة،
بتتشحن بطاقة كامنة، وبعدين بتمر فى لحظة بالانفجار الكبير. فى بريطانيا موضوع اكتشاف مواهب الصغار
وتنميتها جزء أساسى من التعليم. فى مصر بنلغى حصص الموسيقى والألعاب والأنشطة والرسم والرحلات الاستكشافية..
ومشغولون بفتاوى منع الناس من كل حاجة. وصفة اندثار وتعاسة لا تخيب.
الحاجة التالتة إنى باحب أشكر المرحوم عبد المنعم كامل «جوجل من فضلك» اللى عمل كده مع أطفال مش أطفاله
بيحبوا الباليه، وشكرًا لمدام شيرين مدربة الباليه، ولمدام ألكساندرا، وشكرًا لغيرهم
من مدربى ومدربات الباليه فى مصر، اللى بيشتغلوا فى ظل ظروف صعبة، وإمكانيات محدودة،
والأخطر مع بنات (الأولاد فى الباليه عملة نادرة للأسف) معظمهن يرقصن باليه وهمّ شايلين على أكتافهن
ثقافة جسدية تخنق فنون الرقص عامة، والباليه خاصة، فى مساحة محدودة جدًّا من إمكانيات إبداعها.
وفى ظل مجتمع لا يدرك أن الخيال هو نفسه العقل الجامح المبدع الذى يسكن فى جيناتنا، فإن قادنا تقدمنا،
وإن سجناه سجنا أنفسنا. ذلك جوهر الفن كما جوهر الإبداع العلمى.
خالد البرى