خالد البرى
أتذكر هذا المشهد العادى جدًّا من برنامج كان يزور حديثى التزوج. شاب مرح وشابة كول.
تسأل المذيعة الشاب عن أفضل صفات زوجته فيرد مباشرة، بلا تردد، إنها مطيعة،
بينما تبتسم الزوجة الشابة المتعلمة فرحة بهذا الثناء.
هل كلمة «مطيعة» صفة إيجابية؟ هل فى خلق «الطاعة» قيمة فى حد ذاته؟
لن أتفلسف كثيرًا. سأقدم لك دليلًا بسيطًا على أن «الطاعة» ليست قيمة فى حد ذاتها.
لو أن المذيعة سألت الزوجة عن أفضل صفات زوجها فقالت: إنه مطيع.
هل كان الزوج سيبتسم فرحًا بهذا الثناء؟
بالطبع لا، وهذا يثبت أن الطاعة ليست خلقًا حميدًا مستحقًّا للفخر به لذاته، مثل الصدق مثلًا،
أو رجاحة العقل، أو الإتقان فى العمل. هذه هى القيم المستحقة لوصف قيم.
إنما الطاعة -فى حد ذاتها- سلوك مشين. مرة ثانية،
دليلى على ذلك أننا نحتاج إلى إضافة قيمة أخرى إليها، لكى تكون مقبولة،
فهى قيمة فى الحياة العسكرية بدافع «الوطنية»، وإلا فالعقاب،
وهى «قيمة» يتبناها الآباء مع أبنائهم، بدافع «رد الجميل»، وإلا فالحرمان والعقاب.
وهنا أنظر إلى الطاعة من زاوية أخرى، هل ينبغى أن نستخدم كلمة مطيع مع أبنائنا؟
أبدًا أبدًا. بل ينبغى أن نربى أبناءنا على السمع، على الاستماع، على الإصغاء، على التفكير فى ما نقول،
وأن يكون هذا السلوك متبادلًا بيننا. وبالتالى فاحتمال الأخذ بأحد الرأيين وارد.
حتى لو انتهت الطفلة إلى تنفيذ ما يريد الآباء، ينبغى أن تمدح على تفكيرها الجيد وعلى مرونتها،
على إصغائها وعلى اختيارها للمنطقى، لا على طاعتها.
وإن كان رأيها الأفضل ينبغى أن تمدح على استماعها وإصغائها لرأى آبائها أو غيرهم،
وعلى استقلاليتها فى التفكير، وعلى رجاحة عقلها.
الطاعة، هى «الفضيلة الوهمية» التى صنعنا منها جدارًا يحول بيننا وبين اكتشاف كل هذا فى أبنائنا.
وعلى غرسه فيهم. هذه هى التربية يا صديقتى. الطاعة -من وجهة نظرى- إحدى الرذائل،
أحد أسوأ الرذائل، التى ينبغى أن لا نفرضها إلا فى حالات استثنائية جدًّا جدًّا.
لكننا حوّلناها بإحاطتها بألفاظ عاطفية إلى فضيلة.
كلمة الطاعة ممدوحة فى المجتمعات الراكدة، لأنها تضمن أن يتبع الجديدُ القديمَ. فكّرى ماذا يعنى هذا.
إنه يعنى ببساطة أن الجديد يمشى إلى الوراء. جيل أبنائنا يسير على منوال جيلنا،
الذى سار على طريق آبائنا، الذين ساروا على طريق آبائهم. فى حين أن المنطقى، لمجتمع متقدم،
أن يكون الجديد هو عربة القيادة. لأن الجديد يقف على أكتاف القديم، يعرف كل معارفه تقريبًا،
ثم يزيد إليها معرفته بالجديد. ابنة العشرين الآن تعرف عن المستقبل وتهتم به أكثر مما تعرف
ابنة الخمسين التى عاشت عمرها تفترض أن الأصغر منها يجب أن يطيعها ويقتدى بأفعالها.
فلم تستمع ولم تتعلم. ولم تخرج على أن تكون تعديلًا بسيطًا على أمها وأبيها،
مما يجعلها تبدو «قديمة» جدًّا، أقدم من سنّها كثيرًا.
لكن ابنة الخمسين التى عرفت أن الطاعة رذيلة، وأن الفضيلة هى النقاش والاقتناع واتباع المنطق،
فقد حازت حسنيين، معرفة أكثر بالماضى وتطلعًا إلى المستقبل.
ثم انظرى حولك إلى جماعات الطاعة، كيف ضمرت عقول أبنائها، من قلة الاستخدام؟
كيف وجّهوا طاقتهم إلى معاداة الآخرين وشدّهم وإلزامهم بـ«الطاعة»،
بدلًا من أن تتوجه إلى تقديم نموذج جيّد. لقد كان هذا مصيرًا حتميًّا، لماذا؟ بسبب رذيلة الطاعة
التى تربّوا عليها، والتى خنقت وكتمت فضائل التفكير، والتساؤل، والشك، والنقاش، والإقناع،
وكلها فضائل لا غنى عنها للإبداع والابتكار وبالتالى تقديم النموذج «غير المسبوق».
القيم مهمة جدًّا لتقدم المجتمعات. لكن أى قيم؟!