06.25.2013
خالد البرى
كان جولز مدربى على قيادة السيارات فى لندن. وهو شاب من إحدى بلدان المحيط الهادى الآسيوية،
(نواحى اليابان وكوريا). قدراته الإنجليزية محدودة بحكم هذا، زى حالتنا يعنى،
وزى حالتنا بيحب الرغى والأخذ والرد و«طرح الرأى الشخصى».
وبالتالى فقد كان التفلسف بيننا مدمرا. لأن جولز لم يكن كالمدربين البريطانيين.
هؤلاء يستخدمون لغة تقريرية جافة فى التدريب. أما جولز فيلجأ أحيانا إلى السخرية، والأسئلة الاستنكارية،
وشد الشعر، ولكِ أن تتخيلى. جاكى شان ولكن مع مسحة جنون يجلس
إلى جانب شخص يعوض فشله فى قيادة السيارات بالفتْى.
كنا نسير فى شارع من تلك التى تحدَّد سرعة السير فيها بـ٢٠ ميلا فى الساعة.
وهو شارع سكنى ولكنه يقود إلى شارع عمومى،
لذلك فإن عدد السيارات المصطفة على الجانبين كبير.
قُدت السيارة فى حدود السرعة المحددة. طلب منى جولز أن أبطئ. فسألته لماذا؟
أنا أسير ضمن السرعة المسموحة لى. قال لى بصوته الحاد وملامحه الجاهزة للدراما
ويده الممتدة إلى الأمام: هل تريد أن تقتل طفلا يجرى من خلف سيارة؟
- بالطبع لا. لكنها لن تكون غلطتى.
- لكن شخصا قد يموت.
- سيكون القانون فى صفى. أليس كذلك؟ أريد فقط أن أعرف إجابة عن هذا السؤال من باب العلم بالشىء.
- خالد، أبطئ السيارة.
حين توقفنا بالسيارة حاول جولز أن يشرح لى وجهة نظره. بينما حاولت أنا أيضا أن أشرح له وجهة نظرى.
أن الشوارع تحكمها القوانين، وحُسن النية. بمعنى أننى لن أتعمد قتل شخص،
لكننى سألتزم بالإرشادات. ولو أن تلك الإرشادات مضللة فليغيروا الإرشادات.
الحقيقة أن هذه المناقشة البسيطة أثَّرت فىَّ كثيرا بعدها. لقد كنت أدافع عن «الحق».
وكان جولز يحاول -ولم تسعفه لغته- أن يفهمنى أن الأهم من ذلك هو تحقيق المنفعة وتجنب الضر.
نعم من حقى أن أسير فى ذلك الشارع فى حدود السرعة المقدرة.
ونعم لن يديننى القانون لو صدمت أحدا ظهر فجأة أمام سيارتى. لكن هناك طريقة أخرى
-أهم- للنظر إلى الأمور. الشارع فى ذلك الوقت كانت فرصة حدوث حادثة فيه أكبر.
لأن السيارات المصطفة أكثر. وبالتالى فإن احتمال عبور طفل صغير أو قطة أو كلب من خلفها أكبر.
أو حتى احتمال أن يتعثر شاب وهو يمر بحذر بين سيارتين فيقع أمام السيارة.
يسمون هذا «anticipation» والمقصود بها «تحسُّب». أى قياس عواقب الأفعال.
والتحسُّب من احتمال أن يؤدى التزامك الحرفى بـ الحق» إلى مضرَّة.
قواعد الحياة كقواعد المرور، لا تغطى سوى نسبة ضئيلة جدا من السلوك الإنسانى،
حتى حين يبدو أنها تغطيها. وجود قوانين مرور بشأن السرعة لا يعنى أن هذه القوانين غطت كل شىء
بخصوص السرعة. تلك إرشادات عامة، لكن الأهم منها ميزان آخر، إنسانى، يهتم بالآخرين من حوله
ويحرص عليهم، يدرك أن سلوكه إن ألحق الضرر بالآخرين فلن يعود مهمًّا إن كان «من حقه» أم لا.
حين أدخل فى مناقشات سياسية هنا يتكرر أمامى هذا المشهد. يتحدث أناس عن التفكير
واختيار أفضل المتاح من الطرق، بينما يتحدث آخرون عن الحق. يعتقدون أن الحق واحد،
وأنك ما دمتِ ملتزمة بالحق فعدّاك العيب. بينما «الحق» مجرد يافطة، تتغير من شارع إلى شارع،
ومن عين إلى عين، ومن تقدير خبير إلى تقدير خبير آخر، ومن زمن إلى زمن.
الأهم هو تحقيق ما تظنين أنه منفعة للناس. تذكَّرى فى خياراتك السياسية القادمة أنك،
مع التزامك بالحق، قد تتسببين فى مقتل أبرياء وانهيار أمة.