06.29.2013
فى إحدى المرويات اليونانية القديمة قال الفيلسوف الحكيم للملك:
أنا ناصحك إن سألت، أنا حليفك إن عدلت، أنا خصمك إن ظلمت.
يعلق أحد دارسى الأدب اليونانى بالقول: «أن يكون نفس الشخص ناصحا فى يوم وحليفا فى يوم
وخصما فى يوم مسألة محفوفة بالمخاطر؛ لأننا عادة ما نظن أن من ينصح فهو يريد شيئا،
ومن تحالف فقد حصل على ما يريد، ومن يخاصم فقد خسر ما كان يريد»..
والمصريون الآن يشكون فى أى أحد يخالفهم الرأى، وهى نتيجة منطقية لتضارب المواقف
وتراجع المبادئ. ومن هنا ستكون النصيحة محفوفة بالمخاطر؛ لأن من هى موجهة له
واضح أنه قرر ألا يسمع. وسأقول: إن عشرات المبادرات من عشرات الأشخاص والأحزاب
والمستشارين السابقين لرئيس الجمهورية قدمت له، لكنه قرر ألا يستجيب لها فى حينها.
وأنا أتحدث عما أعلم، وما لا أعلم قد يكون أكثر.
الرئيس مرسى هو الرئيس المنتخب.. هذا ليس مدعاة فخر من وجهة نظر كثيرين،
وقد نجح بمهارة واضحة فى أن يعمل كل ما فى جهده فى أن يجعل أصدقاءه من غير أتباعه أعداءه.
قلت من قبل: إننى لا أرتدى أى فانلة حزبية، وولائى لقيم عليا تضع مصر فوق الجميع،
وبغض النظر عمّن يحكمنا، فواجبى أن أنصحه، وإن عدل فأنا حليفه، وإن ظلم فأنا خصيمه.
الدكتور مرسى اختار الجماعة على الجميع، يتصرف وكأنه يتحدث مع شعبه وليس مع شعب،
فى وقت نحتاج فيه للتهدئة، يتبنى خطاب التهديد، فى وقت الوطن فيه بحاجة للوحدة،
فإذا به يبث الفرقة، ولو افترضنا فيه الحصافة فهو بحاجة للمزيد من الأنصار
لكنه يخلق المزيد من الأعداء.
الدكتور مرسى يستخدم أسوأ آلية يمكن أن يستخدمها رئيس دولة فى مثل هذا المقام..
إنها آلية التعزيز السلبى الجماعى (collective negative reinforcement)
وهى آلية تستخدم فى حالات المنافسة الحادة وتكون أكثر وضوحاً فى حالة الحروب الأهلية،
وقد تكون مقدمة لها؛ حيث يسعى كل فريق لتحقيق تماسكه الذاتى بالإشارة الدائمة لوجود مؤامرات شيطانية
وتحالفات معادية ورغبة الآخرين فى تدمير منافسه، ومع هذه الآلية تأتى بالضرورة ثلاث خصائص:
أولاً: تسفيه أو التقليل من قيمة المعلومات التى لا تتفق مع آليات التعزيز السلبى الجماعى؛
مثل أن يبالغ أنصار الفريق فى التأكيد أن المنافس ضعيف وقليل العدد ومنقسم على نفسه ولا ضرر منه،
وتكون المفاجأة غير سارة حين يكتشف هؤلاء أن المنافس ليس ضعيفاً أو قليل العدد أ
و منقسماً على نفسه وأنه يمكن أن يكون مضراً.
ثانياً: الحيرة بين استرضاء الخصوم ودعم الأنصار، وهنا يكون المأزق أن القيادة
التى تلجأ لأساليب التعزيز السلبى الجماعى تكون قد خطت عدة خطوات فى طريق شيطنة المنافسين
والخصوم ووصفهم بصفات التآمر والعداء، هذه القيادة تجد نفسها غير قادرة على أن تنزل عدة خطوات
على سلم التصعيد استرضاء للخصوم إلا بخسارة بعض دعم الأعداء الذين اقتنعوا بالرسائل الأولى
الخاصة بشيطنة المنافس والخصم، وهنا يكون السؤال: «لماذا نقدم تنازلات
لأعدائنا ومنافسينا، إذا كنا نعلم أنهم شياطين ومتآمرون؟».
ثالثاً: التعزيز السلبى الجماعى أداة معدية بمجرد أن يستخدمها طرف سيلجأ لها الطرف الآخر
مباشرة باعتبارها قواعد اللعبة المستقرة، ولا شك أن الاستفتاء على الدستور شهد تطوراً ملحوظاً
فى الأداء الدعائى للفصائل الليبرالية واليسارية وكأنهم تعلموا مما كان يفعله التيار المحافظ دينياً
فى مرحلة سابقة من المبالغات والتخويف والإثارة. والآن ظهر طرف جديد فى المعادلة
وهو شباب «تمرد» وهؤلاء أيضا يقومون بالتعزيز السلبى الجماعى.
وكى تتضح الصورة أكثر تعالوا نقارن بين الدكتور مرسى وهو يقوم بدور «ممثل الجماعة»
، والدكتور مرسى وهو يقوم بدور «رئيس الجميع».
الدكتور مرسى، ممثل الجماعة، نجح فى تعزيز وترسيخ الروابط بين الكتلة المؤيدة له (bonding)،
وهو ما يحدث فى مجتمعات أخرى بين الناس أصحاب الهوية الفرعية أو الرؤى المشتركة والمتشابهة
مثلما تكون بين أبناء الأيديولوجية الواحدة أو الديانة الواحدة، فأصبح من لهم جذور إخوانية
يتعاملون وكأنهم كيان واحد متماسك ضد منافسيهم، وهو أمر تقليدى ينطبق على أى جماعة
أو مجموعة يقتصر فيها التفاعل الداخلى بين أعضائها على مواطنين لهم نفس الهوية الفرعية
(مثل الديانة أو العرق) أو الأيديولوجية.
أما الدكتور محمد مرسى، رئيس الجميع، فكان مطالبا بأن يقوم بتجسير الفجوة (bridging)
أى أن يكون القرار السياسى جسرا للتواصل والتفاعل والتفاهم بين أبناء الأديان المختلفة والأيديولوجيات
المتنافسة سياسيا والمتكاملة مدنيا. أحداث الثورة كانت مناسبة هائلة لخلق روح التواصل وتجسير
هذه الفجوة حتى يشعر الجميع وكأن الكل فى واحد لغرض واحد هو بناء الوطن. وكانت مناسبة انتخاب
أول رئيس مدنى بعد الثورة مناسبة أخرى لتحقيق هذا الحلم، لكن الدكتور مرسى أضاعه حين
لم يقدر مخاوف الناس فى هذه اللحظة من ديكتاتورية جديدة، فاتجه إليها بسرعة، وأضاع منه فرصا عدة:
زيارة المجلس الأعلى للقضاء وحثهم على حماية الوطن وتحقيق أهداف الثورة، زيارة الكاتدرائية
وطمأنة الخائفين من شركائنا فى الوطن، الاجتماع بكل منافسيه الانتخابيين السابقين وإشراكهم فى القرار الجماعى
واحترام ما يصلون إليه، تشكيل حكومة وحدة وطنية على نحو ما شرحت له ولمستشاريه فى مرحلة سابقة
(أرجو قراءة مقالى عن نيلسون مانديلا لو حكم مصر).
أقسم بالله العظيم غير حانث إننى قلت فى اجتماع لبعض مؤيدى الرئيس والمقربين منه منذ فترة
إننى أرى أمامى رئيسا لا يعرف قدر المنصب الذى يشغله، ولا يعرف طبيعة التحديات التى نواجهها،
ولا يعرف أنه يضع جماعته والتجربة الديمقراطية بل وما بقى من الدولة المصرية على المحك.
وقد قلت صراحة إننى أقترب من التعامل معه على أنه «مبارك» آخر. ومع استهجان بعض أنصاره
مما قلت آنذاك، كان ردى: أظهروا لنا أحسن أخلاقكم. وقدموا لنا دليلا على أن الرجل
يريد أن يكون رئيسا لكل المصريين، ليس بالكلام، ولكن بالفعل.
وفى أعقاب الاجتماع، وفى نفس الأسبوع، بدأ بعض الكلام الإيجابى عن مؤتمر للعدالة برعاية الرئاسة
من أجل التوافق على قانون جديد للقضاء، لكن سار مجلس الشورى فى طريقه وكأن الرئيس لم يعد.
هل الرئيس ضعيف بحيث لا يستطيع أن ينفذ ما يعد به؟ طيب لماذا يحكمنا؟ هل الرئيس
ينفذ أوامر تأتى له من المقطم وهو نفس المكان الذى يحرك مجلس الشورى؟ طيب لماذا انتخبناه؟
أعود لأسأل: هل الرئيس الآن: حائر بحاجة لناصح، أم أنه عادل بحاجة لحليف،
أم أنه ظالم بحاجة لخصيم؟
الرئيس اختار طريق الجماعة ولم ينجح فى أن يكون رئيسا للجميع. هو يتصرف مع الشعب المتنوع
وكأنه شعبة متجانسة، وليعلم الرئيس ومن يشاورنه أنهم ليسوا على قدر المسئولية
وأنهم ضيّعوا الأمانة ولم يفوا بالوعود وأنهم أخطأوا فى حق الوطن، وأننا جميعا ندفع الثمن.