عن ديمقراطية الإسلام نتحدث
إنها كارثة بكل المقاييس حلَّت على المسلمين، تتداعى الأفئدة وترتفع الأكف إلى الله
أن يرحم حاملى هذا الدين وأن يزيح عنهم الغمة، فكل الكوارث تهون أمام كارثة طاعون عمواس..
وطاعون عمواس يُنسب إلى بلدة عمواس فى فلسطين، التى نبت فيها عام 18 هجرية،
وانتشر فى بلاد الشام ليقضى فى محصلته النهائية على ما يقرب من ثلاثين ألف مسلم..
ولكننا لا ينبغى أن نقفز إلى النهاية قبل أن نشاهد الملحمة الديمقراطية
التى حدثت تحت حصار هذا الوباء اللعين، الذى إن حل أصاب،
وإن أصاب أمات، وكلٌّ بقدر الله.
عمر بن الخطاب فى حيرة من أمره هو ومعه العديد من الصحابة على مشارف بلاد الشام المصابة..
داخل المنطقة الموبوءة يعيش المسلمون المحاصرون بالطاعون،
كل منهم يضرع إلى الله وينتظر فى صبر حزين اصفرار وذبول ورقَة عمره من شجرة الحياة،
وخارجها يجلس هو وأصحابه يفكرون هل يدخلون المنطقة الموبوءة أم يعودون؟
لحظة.. لماذا الحيرة؟ عمر بن الخطاب خليفة المسلمين.. حاكم شرعى.. معه الشرعية الرسمية..
انتخبه أو اختاره أو تشاور فى اختياره كل المسلمين، من حقه أن يفرض أمره وأن يقطع حيرتهم
بقراره النهائى، ولا حق لأحد فى الاعتراض عليه.. معه الشرعية يا أستاذ!
ولكن عمر من طينة أخرى غير «الطين» الذى نراه الآن.. تربى فى مدرسة النبوة،
ونهل من علمها وحزمها وعقلها وبساطتها وتواضعها.. يجلس عمر بين أصحابه
ويطلب منهم أن يطرح كل منهم رأيه ليرى هل يدخل إلى البلدة المصابة أم يعود؟
إذن فعمر بن الخطاب رضى الله عنه رغم شرعيته السياسية السليمة، ورغم أفضليته الدينية
التى لا يختلف عليها أحد، فإنه مارس الديمقراطية وطلب رأى الناس..
لم يمنعه اختيار الناس له كخليفة وكحاكم وكزعيم شرعى أن يشاورهم فى الأمر..
الأمر الجلل لا بد أن يشترك فيه الجميع.
من الصحابة من أشار على عمر بالدخول متعللا بأنهم عزموا النية على أمر فليكملوه،
ومنهم من أشار عليه بالرجوع لأن معه الكثير من صحابة رسول الله حاملى مشعل الدعوة
ومفاتيح التبليغ.. يأخذ عمر بن الخطاب رضى الله عنه الأصوات، فتكون النتيجة مع العودة..
هل ينتهى الأمر عند هذا الحد؟ أبدا.. يقف أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه ويعلنها فى وجه عمر:
أتفرّ من قدر الله يا عمر؟ عجيب.. خليفة شرعى، ولن يسأله أحد إن قرر، ومع ذلك شاور الجميع،
ومارس الديمقراطية، وخرجت النتيجة بشفافية، وأمام الجميع، وبلا صناديق بلاستيك أو زجاج،
والحاضرون من الصحابة الذين لا يختلف عليهم أحد، ومع ذلك خرج معارض ليعكر صفو الديمقراطية..
ولكن مَن المعارض؟ إنه أبو عبيدة بن الجراح، أمين الأمة وأحد العشرة المبشرين بالجنة،
إذن فلا يمكن المزايدة عليه، لا يستطيع أحد الجالسين أن يصرخ: لا تعكر علينا صفو ديمقراطيتنا..
أنت عميل.. أنت ممول من الخارج.. أنت ضد الشرعية.. ومع هذا الاعتراض العلنى يجيب عمر
بمودة قائلا: لو غيرك قالها يا أبو عبيدة.. عتاب الكبار، كلاهما يعرف فضل صاحبه،
وكلاهما يعرف أن صاحبه لا يريد من الدنيا سلطة ولا مالا ولا متاعا، وأن رأيه لوجه الله..
نية صادقة، وحُسن ظن، وقلب أبيض مفتوح للجميع. ولم يكتف عمر بذلك
بل إنه شرح رأيه أيضا لأبى عبيدة ليطمئن قلبه، رغم أنه -نقول تانى- خليفة شرعى منتخب
وطبَّق الديمقراطية بحذافيرها، وأخذ برأى الأغلبية فى اقتراع غاية فى الشفافية،
ولكن هناك معارض واحد يحتاج إلى تيقن وفهم، فقال عمر: نعم.. نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله..
أرأيت إن كانت لك إبلٌ هبطت واديًا له عُدوتان إحداهما خصيبة، والأخرى جَدْبَة،
أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
هذا عمر بن الخطاب، وهذا أبو عبيدة بن الجراح.. وهذا إسلامنا.
أشرف توفيق