.. فمَاذَا حدث بعد أن عاد السيف إِلَى غمده؟ قرَّر عُمَر بْن الْخَطَّابِ
أن لا يمكث خَالِد بْن الْوَلِيدِ بالحجاز أو المَدِينَة المُنَوَّرَة فرحل إِلَى حمص فِى الشام،
وكان ذَلِكَ هُوَ المكان الأثير لدى خَالِد بْن الْوَلِيدِ، واختاره لأَنَّهُ لاَ يريد أن يظل فِى مكان
صناعة القرارات السياسية وَهُوَ بعيد عَنْهَا، وكان يعرف ويدرك أن دوره هُوَ القَائِد، والفارس،
والفاتح، ومن ثم هُنَاك أدوار أخرى يمكن أن يتجاوز أحدهم قدره فِيهَا،
أو يعلو فِى مقامه فِيهَا عَلَيْه، لكن عُمَر بْن الْخَطَّابِ لم يكُن ليترك الأمر مفتوحا إِلَى هَذَا الحد،
فمثلا كَانَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ يلوم خَالِد بْن الْوَلِيدِ لأَنَّهُ يتدلك بقطعة نسيج معجونة بالخمر
عند استحمامه معتبرا ذَلِكَ دليل رفاهية لاَ مبرِّر لَهَا وغير لائقة، وأشير هُنَا إِلَى أنه عَلَى الرَّغْمِ
من أن هَذِهِ التفصيلة صغيرة ومحدودة، فإنَّ عُمَر بْن الْخَطَّابِ تدخل فِيهَا،
كما أنها تؤشِّر إلى مدى الرفاهية والإحساس بنعمة الحياة، وجمال الدنيا الَّتِى كَانَ يعيشها هَذَا الفارس.
تَخيَّل أنه كَانَ يقابل كل يوم موتى، وقتلى، ودماء، وحروبا، وقرارات حاسمة، وآلاف الجثث،
ومئات الشُّهَدَاء، فكان نتيجة هَذِهِ المشاهد إما أن ينتهى إحساسه بفزع الموت،
وإما أن يتمسك بنعمة الحياة، وبِدَعَةِ العيش والرفاهية، والحَقِيقَة أن خَالِد بْن الْوَلِيدِ جمع بين الاثنتين:
رفاهية وَدِعَة العيش، خصوصا أنه كَانَ من بيئة ثرية جدًّا تجنح بِهِ إِلَى المتعة فِى الحياة
والعيش بالإضافة إِلَى انتهاء أساسه بفزع الموت.
لم تكن طبيعة خَالِد بْن الْوَلِيدِ طبيعة فارس يبحث عن مجد عَسْكَرِىّ فقط، ولكنه كَانَ -كما تؤكد كتب التَّارِيخ-
مُحبًّا لمتع الدنيا وبهجتها، فلم يكُن شىء أحبَّ إليه فِى ليلة شديدة الجليد فِى سَريَّة من المجاهدين
أصبح بهم العدو فعليهم بالجهاد، لم يكُن أفضل وأجمل من ذَلِكَ عنده إلا اشتهاء العروس،
وكانت غاية المتاع عنده إما الحرب وإما الزواج والدّعة والرفاهية،
هَذِهِ هِىَ الحالة الَّتِى نكتشفها فِى قَائِد عَسْكَرِىّ عَظِيم مثل خَالِد بْن الْوَلِيدِ.
ظل خَالِد بْن الْوَلِيدِ فِى حمص أربع سنوات لم يفارقها إلا قليلا وطوال الوقت كَانَ يعيش فِى عزلة عن
واقع العالم السِّيَاسِىّ عربيًّا وإِسْلاَميًّا، كَانَ يعيش بين أهله وأولاده الَّذِينَ قارب عددهم الأربعين
ولدًا ويرجع ذَلِكَ إلى كثرة زيجاته، لكن الغريب أن أولاده الأربعين تُوفُّوا فِى حياته وأمام عينيه..
أمام عينَى هَذَا الأب البطل الَّذِى كَانَ يحب الحياة ويصارع الموت فِى ميدان القتال، ويصرع الأعداء،
ولم يحفظ لنا التَّارِيخ قولا مأثورا فِى موت هؤلاء الأبناء الكثيرين، ولم يقل خَالِد بْن الْوَلِيدِ
جملة توقف عندها التَّارِيخ، وكتبها، ولم يُلقِ حَتَّى بيتا من الشعر، ولم نشهد لَهُ مشهدا فِى كتب التَّارِيخ
يدلّ على أنه قَالَ شيئا، أو تأثر أثرا بليغا فِى موت جملة من الأبناء راحوا ضحية طاعون
مر بالوطن العَرَبِىّ والإِسْلاَمىّ. هَذَا الرَّجُل لم يصدر مِنْهُ ذَلِكَ لسبب واضح جدًّا، هُوَ أنه التقى الموت كثيرا
ورآه عاديًّا ويوميًّا، لذَلِكَ عِنْدَمَا يتعقب الموت أبناءه فهَذَا أمر يحدث أمامه وَهُوَ القَائِد الأشهر
الَّذِى يعرف مَاذَا يعنى الموت، ولم يكُن يهتز بالدرجة الَّتِى يَقُول فِيهَا قولا، أو على الأقلّ يحكى فِيهَا شِعرًا.
لكننى أريد أن أتوقف عند ابنين من أبناء خَالِد بْن الْوَلِيدِ ظلاَّ على قيد الحياة بعد وفاته،
أشهرهما هُوَ المهاجر بْن خَالِد بْن الْوَلِيدِ الَّذِى انضمَّ إِلَى صفّ علىّ بْن أَبِى طالب فِى المعارك الَّتِى خاضها
ضدّ مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان، فكما نعلم بعد موت عُثْمَان بْن عَفَّانَ انقسمت الأمة الإِسْلاَمية إِلَى فسطاطين: ف
سطاط علىّ بْن أَبِى طالب، وفسطاط مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان.
أما ابن خَالِد بْن الْوَلِيدِ الثانى فكان عبد الرحمن، وبَقِىَ حيًّا حَتَّى شهد خلافة مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان،
وكان أحد الَّذِينَ حصلوا على شعبية هائلة، وجماهيرية واسعة، ومحبَّة صافية من جماهير المُسْلِمِين،
وكان أحد أهم الرجالات والشَّخْصيات الَّتِى سعت إليها الأمة وقتها، ثم فوجِئَ التَّارِيخ على حين غرة
بأنه مات مسموما فِى فترة مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان عِنْدَمَا قيل إنه رُشِّحَ للخلافة وكان ذَلِكَ قبل أن يرشح
مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان ابنه لولاية العهد بوقت لَيْسَ قصيرا وسابقا بعدة أسابيع أو أيام،
سقى مُعَاوِيَةُ بْن أَبِى سُفْيَان سمًّا -كما تَقُول كتب التَّارِيخ والمؤرخون- لعبد الرحمن بْن خَالِد بْن الْوَلِيدِ ع
لى يد طبيب معاوية، هَذِهِ هِىَ اللحظة التَّارِيخِيَّة الَّتِى انْتَهَى فِيهَا نسل وذرية هَذَا القَائِد الَّذِى صاحَبَ الموت والقدر،
والذى لعب دورا تَارِيخِيّا رائعا ومجيدا فِى الفُتُوحَات الإِسْلاَمية.
كَانَت نهاية خَالِد بْن الْوَلِيدِ على فراشه بعد أن شهد ما يقرب من 50 زحفا من العراق، ونجد، والشام،
ولم يبقَ فِى جسمه موضع سليم من كثرة الجراح، مات خَالِد بْن الْوَلِيدِ ولم يتجاوز الخامسة والخمسين من عمره
على فراشه، هَذَا الرَّجُل الَّذِى غيَّر من خريطة الإِسْلاَم والمُسْلِمِين فِى العالم بأسره.