09.02.2013
خالد البرى
فى مبنى قريب منى أحصيت فوق السطوح وفى الطوابق الخمسة التى أستطيع أن أراها ٣٢ طبقا فضائيًّا.
من الناحية العملية، هذا العدد من الأطباق الفضائية مهدِر للمال.
لو استبدلت شركة بكل هذه الأطباق الفضائية طبقا واحدا للبناية كلها، سيكون هذا مشروعا مربحا،
سواء للشركة التى تستطيع أن تعيد بيع الأطباق الفضائية بعد تجديدها، أو للسكان بأن تتعهد نفس الشركة
بتجميل البناية وطلائها، مقابل فارق السعر، فضلا عن التجميل الذى سيحدث تلقائيا
بعد إزالة هذا الانتشار العشوائى للأطباق والأسلاك.
العائق غير الإجرائى أمام مشروع كهذا شيئان. أولهما عدم الاكتراث بالبعد الجمالى، على اعتبار أنه أمر ثانوى تافه.
لا نلتفت إلى الحقيقة البصرية والسمعية والشَّمّية: أن الجمال فى الشىء مرتبط -فى الغالبية الأعم- بجودته.
وأن القبح إشارة تحذير، وعلامة إهمال، ودليل قلة كفاءة.
وثانى العوائق الهزيمة المعنوية للطبقة الوسطى. مما جعل أبناءها يفقدون روح المبادرة فى ما يخص حياتهم الشخصية،
كخطوة أسبق من روح المبادرة فى الحياة العامة. تذكَّرى سخرية نشطاء سياسيين من «طلاء الأرصفة».
فى مشروع بسيط كهذا ستخلق كل بناية فرصة عمل لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة لشخصين أو ثلاثة أو خمسة.
هل من أسلوب أفضل من ذلك لتوزيع «الثروة» بطريقة ناعمة، وعلى مبدأ الاستفادة المتبادَلة؟
أبدا. أفكار فى هذا الاتجاه أفضل من آلاف التنظيرات عن العدالة الاجتماعية، بلا تحرك لتحقيقها، ولا إمكانية لتحقيقها.
العدالة الاجتماعية لفظ فضفاض، أدق منه التنمية الاجتماعية. مساعدة الجميع على تحسين ظروفهم.
هذا فارق تأسيسى فى فلسفة إدارة الأمور. فلا تحسين بغير موارد، ولا موارد بلا استثمار،
ولا استثمار بلا دولة قانون مستقرة تساعد الجميع على روح المبادرة التشاركية.
هذا أصل الديمقراطية، والحياة السياسية السليمة.
مشكلة مصر السيا/جتماعية أنها أسيرة لدعاية تيارات «النقمة». وتلك تعمل بطريقة لا واعية
على نشر سياسة عدم الاكتراث. لن تحارب، مثلا، التعليم، لكنها لن تكترث به. لن تتنازل وتتفضل
وتقبل نقل النماذج المجرَّبة الناجحة لإدارة المجتمعات فى العالم من حولنا لكى تتوفر أموال لتحسين التعليم.
هذا، بالنسبة إليها، أمر تافه لا يستحق بعض التنازل عن «المبادئ المطلقة العظيمة»
التى تسعى تيارات النقمة لتحقيقها. لكن الحياة تضربهم، مرة وراء أخرى، بالحقيقة: لن تتحقق المبادئ العظمى
إلا بتذليل العقبات لحرية المبادرة، لأن هذا ما يخلق الفرص، والفرص تحقق الطموح،
وتحقيق الطموح يغرى بمزيد من الطموح. هذه قاطرة السلوك التقدمى.
ثم إننا نظن أننا فى مجتمع متكافل متراحم. والحقيقة أننا فى مجتمع متراحم فى حدود العائلة.
وحين «يتغرب» أفراد عن عائلاتهم يكونون جماعة تحل محل العائلة. بينما المجتمع التشاركى الحقيقى
هو المجتمع الذى يتشارك فيه «الغرباء» من أجل تحقيق منفعة للجميع، وليس من أجل الرقابة على الآخرين
وممارسة نمط الوصاية العائلية عليهم. البناية التى أسكن فيها بناية عالية، نصف طوابقها فوق حدود الترخيص.
والبنية التحتية فيها ضعيفة لم تأخذ فى حسبانها هذا الارتفاع. الماء لا يصل إلى أى طابق فوق الطابق السادس،
لا بد من مُوتورات ماء. ولأجل تركيب هذا المُوتور يجب أن نحفر فى الأرض تحت المدخل.
بعض السكان حجزوا شققهم قبل اكتمال بناء العمارة، وبالتالى ركبوا مُوتورات لأنفسهم.
مَن جاؤوا متأخرين فوجئوا بأن عليهم أن يعيشوا حياة دون ماء. فضغط الماء الضعيف أساسا صار الآن منعدما.
وحين حاولنا أن نتحدث مع أصحاب المُوتورات، لكى نشترك جميعا معهم، مقابل أن ندفع إليهم مبالغ تردّ التكلفة
التى تكلفوها، وحتى نتجنب حفر مدخل العمارة وتكسير البلاط، فوجئنا برد يبدو عاديًّا:
«مابنحبّش الشركة مع حد».
هذا مجرد مثال بسيط لما تحدثت عنه فى الفقرة السابقة. لا يدرك هؤلاء أنهم بالفعل اقتسموا مع جيرانهم الماء،
ولكن قسمة ظالمة. لأننا فى بناية واحدة. ولا يدركون أيضا أن المحرومين من الماء يدفعون فاتورة الكهرباء
لأصحاب المُوتورات ضمن «كهرباء السلم». أى أنهم يدفعون تكلفة الكهرباء لمن يحرمهم الماء.
لو أدركوا هذا لعلموا أن الشراكة موجودة بالفعل، لكن شروطها سيئة. لأدركوا أن طبيعة مجتمع المدينة
تجعل غرباء يتشاركون بناية واحدة، وشارعا واحدا، وطرقات واحدة. يتشاركون.
يتشاركون. وبالتالى تحتم عليهم التعاون.
ربما تكون الفكرة التى بدأتُ بها المقال صعبة التنفيذ، ربما تفشل أمام حساب الجدوى الاقتصادية
وتكون تقديراتى خاطئة أو فقيرة المعلومات. لكن غيرها قد ينجح. الفكرة الأساسية هنا هى روح المبادرة
والشراكة بين أبناء مجتمع المدينة. المبادرات التشاركية قادرة على تعميم روح المجتمع أفضل من ألف خطبة وعظ،
وألف درس فى كتاب التربية القومية. وهى ترسخ صورة للمجتمع الأهلى الناجح ستنعكس سياسيا
على الممارسة الديمقراطية، وعلى السلوك العام، وأيضا على التنمية المجتمعية، مفتاح العدالة.