منشور على موقع الدكتور يوسف القرضاوى هذا الجزء من مذكراته.
من الذكريات المؤلمة التى لا أنساها: أن الإخوان كانت لهم نشرة سرية تصدر فى هذا الوقت تحت عنوان «الإخوان فى المعركة»
تهاجم ثورة 1952 ورجالها بعنف، وتتضمن المنشورات الثورية التى تصدر عن قيادة الإخوان مثل منشور عنوانه:
«هذه الاتفاقية لن تمر» (يعنى: الاتفاقية التى عُقدت مع الإنجليز) وآخر بعنوان: «خمسة وعشرون مليوناً يباعون فى سوق الرقيق».
وكان ينسب إلى الأستاذ سيد قطب أنه محرر هذه المنشورات الثورية بقلمه.
وقد أذاعت هذه النشرة نبأً قالت فيه: إن القرضاوى والعسال قد مرقا من الدعوة، وانضما إلى ركب الخونة،
وعلى الإخوان أن يحذروا منهما! وقد استجاب الإخوان لذلك، حتى قابلنى بعض الإخوة الذين كانوا يُعتبرون من تلاميذى،
فأعرضوا عنى، ونأوا بجانبهم: وبعضهم قال لى: لم يعد بيننا وبينك رباط.
وهذا أمر شائع فى الإخوان، أذكر أنه حين صدر أمر بفصل الشيخ الغزالى والأستاذ صالح عشماوى، والدكتور محمد سليمان،
والأستاذ أحمد عبدالعزيز جلال، وكنا فى معتقل العامرية، وكنت أتحدث مع أحد وعاظ الإخوان المعروفين،
وجاء ذكر الأخ الشيخ الغزالى، فقال: الغزالى لم يعد أخاً لنا، لا هو ولا إخوانه المفصولون من الجماعة.
قلت: لم يعد أخاً لنا فى الجماعة، ولكنه بقى أخاً لنا فى الإسلام.
قال: إن عمله فصل ما بيننا وبينه.
قلت: هل يهدم تاريخ الشخص وجهاده كله بزلة واحدة يزلها؟
إن الله سبحانه لو عامل الناس بهذه الطريقة لدخلوا جميعاً جهنم.
إن الرسول الكريم علمنا أن الإنسان تشفع له سوابقه، وتغتفر له بعض سيئات حاضره من أجل مآثر ماضية.
وقد قال لعمر فى شأن حاطب بن أبى بلتعة، وقد ارتكب ما يشبه الخيانة للرسول وجيشه:
«ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإنى قد غفرت لكم».
من أجل جهاده فى بدر غفر له ما اقترفه فى فتح مكة!
وهذا ما يُعاب على الإخوان: أنهم إذا أحبوا شخصاً رفعوه إلى السماء السابعة، وإذا كرهوه هبطوا به إلى الأرض السفلى.
والمفروض فى الإنسان المؤمن، لا سيما الداعية، الوسطية والاعتدال فى الحكم على الناس، فى الرضا والغضب،
والمحبة والعداوة، فإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضى لم يدخله رضاه فى الباطل، وإذا أحب لم يحابِ من يحب بالكذب،
وإذا عادى لم تبعده عداوته عن الصدق،
كما قال تعالى: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ» (الأنعام)،
«كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» (النساء)،
«وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ» (المائدة).
وقد كان من دعاء النبى، صلى الله عليه وسلم: «وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا».
على أن الكراهية هنا لا ينبغى أن يكون لها مورد، فإن اختلاف الناس فى السياسات والمواقف، كاختلافهم فى الأحكام والفقه،
والواجب هنا: أن تختلف الآراء ولا تختلف القلوب، وأن يعذر الإخوة بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه.
والمختلفون هنا يقال فيهم: مصيب ومخطئ، لا مؤمن ومنافق، أو صالح وفاسق، إذا حسنت النيات، وصفت القلوب،
وهذا ما يظن بأهل الدعوة إلى الإسلام، وإن اختلف بعضهم مع بعض. فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور.
بل المصيب مأجور أجرين، والمخطئ مأجور أجراً واحداً، إذا كان خطؤه ناشئاً عن اجتهاد.
وفى القرآن الكريم: «عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (الممتحنة):
وهذه وردت فى شأن المشركين المعادين، فما بالك بالمسلمين الموالين؟!
انتهى كلام الشيخ، وأطلب منه أن يفعل كل ما فى جهده حتى لا تتحول مصر إلى سوريا أخرى. أرجوه أن يفكر فى الأمر
من هذه الزاوية. وأرجو أن نطبق فقه الأولويات والموازنات وأزعم أن أولى الأولويات هى أن نحقن الدماء.
وكل من له كلمة أو رأى أو قرار عليه أن يُعمله لحقن دماء المصريين، ولننقذ أنفسنا من أنفسنا.
وعسى الله أن يجعل بيننا مودة. والله قدير، والله غفور رحيم.