تمكن «أبرهة» من إعادة نشر النصرانية فى اليمن، وبنى عدداً من الكنائس، كان من أهمها كنيسة «القُلَّيْس» بصنعاء،
وقد كانت عجيبة من عجائب البناء فى عظمتها وضخامتها، وقد أراد أن يجعل منها بديلاً لبيت الله الحرام (كعبة العرب)؛
بحيث يتوجه الحجيج إلى صنعاء بدلاً من التوجه إلى مكة. ولم يكن «أبرهة» يهدف من وراء ذلك إلى خدمة أهداف دينية
قدر ما كان يسعى إلى حصد منافع تجارية وتحويل «صنعاء» إلى محطة بديلة لمحطة «مكة».
لم يفهم «أبرهة» الفارق بين بيت أرادت له السماء أن يكون بيتا لله وبناية بناها إنسان فأحسن معمارها وأجاد فى تزيينها،
فأصبحت مبنى عظيماً، لكنه يفتقر إلى الروح والقيمة. لم ينفع «القليس» بهاء المنظر أو جمال الصورة!
ولما فشل «أبرهة» فى تحقيق مسعاه، لم يجد أمامه بداً من الزحف نحو مكة لهدم البيت الحرام ومحوه من فوق خريطة الوجود،
كيف يتردد فى ذلك وهو يمتلك «الفيل» الضخم الرهيب الذى يستطيع أن يدهس كل من يقف فى طريقه؟!
حشد «أبرهة» جنوده وتصدرت «الفيلة» الحبشية المخيفة الجيش، وجدّ فى السير نحو جزيرة العرب.
وقد حاولت عدة قبائل أن تقف فى طريقه وتمنعه من الوصول إلى مكة، لكنه كان يدهس كل من يقابله،
وكان «الأشرم» يتخذ من كل قبيلة كان يهزمها دليلاً يهديه إلى طريق مكة، ولما علمت القبائل
التى كانت تعيش على المسافة الواقعة بين اليمن والجزيرة العربية بسحق أبرهة لكل من واجهه آثرت العافية
وأخلت له الطريق حتى وصل إلى مكة. وقد بعثت بعض القبائل بالسفراء إلى «أبرهة» يعرضون عليه ثلث أموالهم،
مقابل أن يرفع يده عن البيت العتيق الذى يعظمونه ويوقرونه، لكن «الأحمق» لم يسمع لهم. ومؤكد أن «أبرهة» كان أحمق؛
إذ لم يفهم مغزى أن تسعى إليه القبائل العربية وتعرض عليه التنازل عن مالها حتى لا يمس البيت،
كان أحمق إذ لم يفهم الأمر الجلل الذى يقدم عليه.
وهناك وجه آخر للحمق فى تفكير «أبرهة» ارتبط بإفراطه فى الثقة فى أدوات القوة المتاحة لديه، واغتراره بحالة السكات
التى قابلت بها القبائل العربية زحفه نحو البيت الحرام. لم يتوقف أمام عملية «الإخلاء» و«الاختفاء» التى قابلته،
ظن أن أساسها الرعب منه والخوف من آلته الباطشة، فأغراه ذلك بالمزيد من السير، فأخذ يقطع الطريق واثقاً فى جنده،
ومطمئناً إلى أدوات رعبه التى كان يتصدرها «فيلَة» الحبشة الضخمة، وهى تتشابه مع المدرعات والدبابات
التى تعتمد عليها الجيوش المعاصرة. وأخذ يحلم باليوم الذى سيصل فيه إلى البيت الحرام ليسوى به الأرض
باستخدام أدوات القوة التى تفتقر إلى سند أخلاقى معقول!
كذلك قادة الجيوش فى كل زمان ومكان، لا يفكر أحدهم فى السند الأخلاقى الذى يبرر له استخدام القوة وسحق الآخرين
وإهدار دمائهم ودماء جنوده أيضاً، قدر ما يفكر فى امتلاكه لعناصر القوة. فإحساسه بامتلاك السيف يملكه،
ودائماً ما يحاول الالتحاف بـ«السماء» وهو يسفك الدماء على «الأرض». كذلك فعل أبرهة حين قرر غزو جزيرة العرب،
رافعاً شعار «نشر المسيحية السمحاء»، رغم أن «المسيح» قال: «مكتوب أنه من أَخذ بالسيف أُخِذ بالسيف»،
وبعد مرور عدة قرون من الزمان فعلها «بوش الابن» وهو يبرر لنفسه ذبح العراق وأهل العراق حين رفع شعار «الحرب المقدسة»،
ويبدو أن ذلك هو «ديدن» الطغاة مهما اختلف الزمان وتباين المكان.