مبارك "أحلام السلطة وكوابيس التنحى"..الحلقة الثانية
12 إبريل كان يوما فارقا فى حياة الرئيس الأسبق، محمد حسنى مبارك، فهو اليوم الذى سعى لتحاشيه وتأجيله،
لكنه وجد نفسه وجها لوجه مع المحقق، وأنه متهم يواجه اتهامات بالقتل والفساد.
خضع مبارك لأول تحقيق بشأن اتهامه بقتل المتظاهرين والفساد المالى، وتأكد له بما لا يدع مجالا لأى شك،
أنه لم يعد هو نفسه الرئيس الذى كان حتى شهرين صاحب القرار، لكنه كان قد استسلم،
وكيف نفسه لأيام طويلة، وأحداث ومواقف، ربما لم يتخيلها. بعد التحقيق معه من النيابة، والتعامل معه ب
وصفه المتهم محمد حسنى السيد مبارك، واتهامه بإصدار أوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين،
وارتكاب جرائم ضارة بالمال العام، كان طوال الوقت ينفى أنه أصدر تعليمات بالقتل، ويستنكر الاتهامات بالفساد،
ويعترف بالمظاهرات، وعلمه بها وكونه قد عقد اجتماعات لمجلس الأمن القومى،
وأنه تلقى تقارير من وزير الداخلية بعد مظاهرات 25 يناير بأن المظاهرات فى جمعة الغضب لن تكون ضخمة،
ويعترف بأن التقارير توقعت أنها ستكون أكبر، ومع الاتهامات التى وجهتها له النيابة بالفساد تخلى عنه تماسكه،
وشعر ببعض الدوار، وأصيب بأول أزمة قلبية، ليصدر قرار النائب العام فى اليوم التالى 13 إبريل
بحبس حسنى مبارك وولديه علاء وجمال 15 يوما على ذمة التحقيق، ويتم ترحيل علاء وجمال إلى طرة،
بينما يتم التفكير فى نقل مبارك إلى مستشفى عسكرى، بعد أن أعلن محاميه أن حالته مهددة،
ولتبدأ دورة أخرى من التواريخ المهمة، لعل أكثرها ذروة درامية.
صحيح أنه كان «مغمض»، يحاول أن يبدو مريضا، لكن اللحظة كانت أعلى لحظات ما بعد التنحى،
وأول رئيس أو حاكم فى تاريخ مصر الحديث يحاكم، نادى القاضى أحمد رفعت عن المتهم «محمد حسنى السيد مبارك»
ورد مبارك: أفندم.. حاضر، ليبدأ مرحلة جديدة من الجلسات والمحاكمات والأحكام.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]والذى لاشك فيه أن حسنى مبارك استعاد حياته عدة مرات من بدايتها لنهايتها، وتوقف عند لحظات فرح
أو حزن أو تفوق، أو سلطة، وأيضا لحظات النهاية، التى بدا فيها غير قادر على القيادة،
وكان الهبوط الاضطرارى للفرعون الأخير محمد حسنى مبارك، الذى بدا طوال حياته محظوظا بالفرص،
يسيطر على حياته، لكنه فقد السيطرة فتداعت حياته وخسر الكثير من المكاسب. خسر صورة الرئيس السابق
الذى سلم السلطة، كما أنه ارتكب خلال سنوات حكمه الأخيرة أخطاء أضاعت الفرص التى حصل عليها.
كان مبارك حريصا على أن يرد على نداء المحكمة باحترام، ويتعامل كرئيس سابق، كان يعلن دائما
أنه يحترم سلطة القضاء، لكنه كان فى الواقع يشعر بغصة وبنوع من الظلم، وربما الخيانة، لأنه لم يتصور
أن يجد نفسه أمام المحكمة متهما بالقتل والفساد، بينما استجاب لمطالب الجماهير الغاضبة،
ويبدو أنه وطن نفسه على التعامل كمواطن، وليس رئيسا، لأنه استرجع غضب الشارع
الذى لم يتوقف عن طلب محاكمته طوال الوقت.
وبدا مبارك غاضبا من الاتهامات بالفساد، أكثر من غضبه من اتهامه بقتل المتظاهرين. بدا حريصا على
إبراء شرفه العسكرى والسياسى، لكنه لم يعترف أبدا بارتكاب أخطاء سياسية تسببت
فى الكثير من المشكلات، والفقر والظلم.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ونحن هنا فى هذه الحلقات الأربعين وربما أكثر، نقدم محاولة لقراءة حياة مبارك، قصة حياته الشخصية والسياسية،
ونظامه الذى بدا أنه انتهى بتنحيه، وبجانب مبارك نروى القصة، ومعها قصص لأشخاص عاصروا مبارك
وخدموا معه، منافسين له، أو مساعدين، بعضهم حكى بعضا من القصة، والبعض الآخر آثر الصمت،
أو صمت بالرحيل. نسعى للتعرف على نظام أمنى كان الأقوى، ونظام اجتماعى كان الأضعف،
لقد قال مبارك لباراك أوباما فى المكالمة الأخيرة بينهما: «أنت لا تعرف الشعب المصرى.. أنا أعرفه»
فهل كان حسنى مبارك يعرف الشعب فعلا، وهل كان يمتلك مفاتيحه ويتحكم فيه، أم أنه أفاق على لحظة اكتشف فيها
أنه لا يعرف هذا الشعب، الذى بدا هادئا قانعا، ثم هب غاضبا؟
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وفى المقابل، هل فهم الشعب المصرى من هو حسنى مبارك، وهل استطاع أحد أن يقرأ تفاصيل هذا الرجل
الذى حكم ثلاثين عاما، ولم يتذكروا من خطاباته سوى الكلمات التى وردت فى الخطابات الأخيرة،
عندما حاول استعطاف الشعب، والحصول على فرصة أخيرة، بعد ثلاثين عاما من الفرص.
حاولنا خلال هذه الحلقات أن نبحث عن مفاتيح لبعض ألغاز تركها الرجل، ومفاتيحه، وهل كانت نشأته لها علاقة
بخاتمته فى السلطة، وكيف تغير بعد السلطة، وتحول ليصبح شخصا آخر؟
لقد بدا مبارك فى بدايات حكمه شخصا متواضعا، يتحدث عن الطهارة، والكفن الذى بلاجيوب، ورحل
وهناك جيوب كثيرة مفتوحة فى البلاد طولا وعرضا، جيوب امتصت مال الشعب وأراضيه، بينما خلت جيوب الملايين
من حقهم فى التعليم والعلاج والسكن.
يظل حاضراً لدى قطاع من المواطنين، بعضهم أطلق على نفسه «آسفين ياريس» معتذرين عن الثورة،
وهؤلاء يجدون تبريرات لمبارك ويطالبون بتكريمه بدلاً من محاكمته، بل إنهم يرون أن مبارك حافظ على مصر
كما تسلمها، وحافظ على استقرارها وسط أنواء ومصادمات، ويتجاهلون الكثير من الفرص التى أضاعها مبارك،
بل إنهم ينكرون مع مبارك كونه تورط فى الفساد أو ساعد عليه، ومن تأمل هؤلاء الذين اعتادوا أن يحتفلوا بمبارك
أو الذين احتفلوا بعيد ميلاده أمام المستشفى، ومن اعتادوا متابعته فى المحاكمة، والدعوة للإفراج عنه وتكريمه
بدلا من محاكمته، ربما لايعرفون الكثير عما كان يجرى، وربما كان بينهم ضحايا له ولنظامه،
ولا يمكن اعتبارهم من المستفيدين من مبارك وحكمه، فليس من بينهم قيادات سابقون، ومبارك ليس لديه ما يقدمه لهم
غير إشارات من نافذة المستشفى، أو من خلف قضبان القفص.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وهو سؤال يطرح نفسه عن السبب الذى يجعل عدداً من ضحايا الفقر والمرض والفساد، يصرون على
الدفاع عن مبارك ونظامه، وبعضهم لا ينكر حجم الفساد والأخطاء، ويطالبون بعدم تجاهل دور مبارك العسكرى،
ودوره كرئيس حكم فى فترة صعبة وحافظ على الاستقرار. منطق هؤلاء يتجاهل كثيراً أن أخطاء مبارك
وعدم تفاعله مع أجراس التحذير خلال عشر سنوات، كان عاملاً فيما تعانيه مصر، وأنه كان يمتلك فرصة
لنقل مصر إلى الديمقراطية، لو التزم بمواجهة الفساد السياسى والاقتصادى، كما أنه مسؤول عن غياب العدالة
واختلال الميزان الاجتماعى، وعدم السعى لخلق حياة سياسية قوية، بما فتح الباب للعشوائيات
والفقر الذى ولد التطرف، ويبقى مبارك فى الصورة، لدى أنصار له، وأيضاً لدى خصومه ونقاد عصره ومعارضيه،
خاصة بعد مقارنة عهده بالتجربة السيئة لحكم الإخوان ومرسى، التى أعادت النظام بشكل أسوأ،
حيث أحلت الجماعة مكان الحزب الوطنى، وأصرت على أن تحكم منفردة بلا شريك.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وللمفارقة، فإن مبارك عاش وقد تصور البعض أنه لن يستمر بعد تنحيه، ولم تتوقف الشائعات والأنباء عن موته،
لدرجة أن موته أصبح نكتة تقول: هو مبارك ماماتش من كم يوم، وبالرغم من قوة الصدمة التى تلقاها،
فقد ظل جهازه العصبى قويا وقادرا على تلقى الصدمات، وحتى عندما جلس فى القفص أمام القاضى،
يحاكم بتهم قتل المتظاهرين، والفساد، فقد ظل لفترة مختبئا خلف النظارة السوداء، مريضا واهنا،
لكنه مع الوقت بدأ يتفاعل مع أنصاره ويلوح لهم، كما أنه واصل حضور الجلسات وبدا ملتزما باحترام المحكمة،
ومرت الجلسات، وصدر الحكم الأول بالسجن المؤبد عليه وولديه، ووزير داخليته، فضلا على محاكمات
فى قضايا الفساد بالقصور الرئاسية، وغرامات ضخمة فى قطع الاتصالات، وكل هذا لم يبدو أنه أثر فيه،
واستمر يستخدم حقوقه، فى الاستئناف والنقض، كما أنه عاش ليشهد صعود الإخوان للسلطة، فى مجلس الشعب
ومجلس الشورى والرئاسة، وكيف أنهم كذبوا على القوى السياسية، واستأثروا بالسطات،
وبدا مبارك وكأنه يرى نبوءاته تتحقق، والإخوان يخدعون الجميع، ويسعون لتحطيم مؤسسات القضاء والجيش،
وبدت الجماعة فى السلطة تكرارا بشكل أسوأ لتجربة الحزب الوطنى، ومحمد مرسى يضيف إلى التسلط،
الفشل والعجز، ويفشل فى أن يصبح رئيسا بعيدا عن مكتب الإرشاد، كل هذا منح مبارك بعض التسرية،
لكونه رأى من يقارنون بين حكمه وحكم الجماعة، كما أنه شعر بالفرح لسقوط حكم الجماعة،
لكنه لم يفكر أبدا فى كون نظام حكمه كان مسؤولا بشكل كبير عن بقاء الجماعة.
ومن دون أن يلتفت إلى أنه هو من فرغ الساحة السياسية، وجعل الإخوان فزاعة وبديلا وحيدا للحزب الوطنى،
وكأنه عاش ليجد أن الجماعة أعادت له بعض حقوقه، بسبب غبائهم وطمعهم.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ومرت أمام عينيه صور بديع والشاطر وتخيل نظرات الشماتة فى عيونهم لكنه عاد ليقول لنفسه عموماً هنشوف.
كان يصبر نفسه بأن الجماعة لن تفرح بمؤامراتها.
ومن المفارقات أن كل خصوم السادات، احتفظ بهم مبارك لم يتحالف معهم ولم يقض عليهم، ولم يحاول فهمهم،
فقط احتفظ بهم ضمن نظام أمنى يقوم على قانون الطوارئ الذى يتيح له اعتقال من أنهوا فترات عقوباتهم.
لقد تمت محاكمة قتلة السادات، وإعدام من ثبت تورطهم فى الاغتيال، بينما تم الحكم على آخرين بالسجن المؤبد،
ومنهم عبود الزمر وطارق الزمر وعاصم عبدالماجد، كما تم سجن زعماء أحداث مديرية الأمن فى أسيوط،
وظلت المعركة بين النظام والجماعات الدينية التى حملت اسم الإسلام السياسى، مستمرة وبقى المسجونون بعد قضاء العقوبة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]استند مبارك لقانون الطوارئ فى مواجهة خصومه من الجماعات الإسلامية والإخوان، وتنحى
وقد خرجوا جميعا ليشكلوا الأغلبية والأحزاب، التى نجحت فى التهام أغلبية البرلمان، وكأنما احتفظ بهم مبارك ليطلقهم،
أو أنهم خرجوا ليحتلوا الصورة التى احتكرها مبارك وحزبه وحدهم، بدا الفراغ كبيرا، احتله خصوم احتفظ بهم مبارك
الذى حكم بجزء من تعاليم ميكافيليى ونسى أجزاء أطاحت به قبل أن يشبع من السلطة.
أمام القوات المسلحة، ولم ينفعه نظام وضعه الأمريكان وأجهزتهم ودربوا عليه طواقم الحراسة، توقع كثيرون
أن يغير مبارك من طريقة الحكم، لكن الأزمة التى واجهها مبارك أنه لم يكن ذو ميول سياسية ولم يمتلك أبد
ا مشروعا تجاه السلطة، اندفع بكل ما لديه لبناء نظام يمنع تكرار ما جرى مع السادات، وتمرد على نظام الأمريكان،
لكن النظام الأمنى تشعب حتى بدا هو المحرك الرئيسى لكل تفاصيل الحياة، كانت سلطة النظام
تتبدى فى قبضة أمنية تبدو قوية، وصلت ذروتها مع حبيب العادلى.. بينما سلطة الدولة تتآكل لصالح جماعات
تجمع بين النشاط الخيرى والسياسى والدعوة والدعاية الدينية، وتحتل جماعة الإخوان والجماعات السلفية
بتنويعاتها، الفراغات التى لا يصل إليها النظام، يتوقف الأمن عند أبواب الشوارع والحوارى والبيوت،
بينما سلطة شيخ الجامع والخطيب والداعية تتخلل كل هذه الفراغات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لقد تسلم مبارك السلطة وهناك أربعة ملفات عالقة ومشتعلة من عهد السادات، هى الفتنة الطائفية،
وإن كانت لم تصل لحرب أهلية، وملف الجماعات الدينية والصراع معها الذى كان يأخذ بعدا سياسيا أحيانا،
وأخرى شكل الصراع العنيف.
أما الملف الثالث فهو ملف التنمية والاقتصاد والعدالة، لأن مبارك تسلم نظاما اجتماعيا مختلا لم يتدخل فيه،
بل إنه غذى الظلم فيه على حساب العدالة، كما أن النظام الاقتصادى كان يقوم فى كثير من الأحيان
على القرب من النظام السياسى، وجرى تزاوج واضح بين الثروة والسلطة، واقتصرت الفرص الاقتصادية
والاستثمارية على المقربين، من توزيع الأراضى إلى غياب نظام عادل للضرائب يعيد توزيع الدخول،
والنتيجة، طبقة ثرية جدا من المليارديرات، وطبقة واسعة جدا من الفقراء، وبينهما طبقة وسطى مرتبكة ومتآكلة،
وعاجزة عن الصعود مرعوبة من الهبوط. بقى مبارك ثلاثين عاما وتنحى وترك هذه الملفات معلقة تطورت
بحكم الزمن وتحولت من حالة حادة إلى حالة مزمنة اكتفى فى مواجهتها بالحلول الأمنية.
لم يتحول إلى متن، وساهمت السياسات التى اتبعها مبارك فى مزيد من التهميش، نمت الجماعات الإسلامية،
وتقلصت الأحزاب، واختفت السياسة أو ماتت وتنحى مبارك وهناك حالة من العجز السياسى،
وغياب البدائل ضمن نظام لا يعرف تداول السلطة، ليس فقط فى الحزب الحاكم، وإنما فى الأحزاب السياسية المختلفة
التى لم تجرب طوال أكثر من ثلاثين عاما فكرة تداول السلطة أو المنافسة السياسية، لقد استدعى الرئيس أنور السادات
جماعة الإخوان من المنفى والعزلة، وتحالف معهم ومع تيارات إسلامية ناشئة، ضمن منافسته مع اليسار بتنويعاته،
ومات وهو متصادم مع التيار بدرجات مختلفة، بل إنه جرى اغتياله من الجماعات التكفيرية
التى نشأت على شواطئ جماعة الإخوان العتيدة.
تسلم مبارك الحكم وظلت علاقته مع الجماعة، بين شد وجذب، وشهدت سنوات حكمه اتساعا لرقعة الجماعات الإسلامية
التى مارست السياسة من منظورها، وظلت تراوح مكانها وتجمع بين العمل السرى والعلنى، وبقيت الأوضاع
كما هى، فلم يسمح مبارك بتطور الشارع السياسى، ليخلق حيوية ومنافسة، ولا هو قضى على الجماعات المختلفة
التى بقيت واتسعت واتخذت أشكالا أخرى فى المجتمع، وتحورت جماعات الإسلام السياسى، بتنويعات مختلفة،
إخوان وسلفية وتكفيرية، وانتشرت تلك الجماعات الدعوية فى المساجد والحارات والشوارع وتداخلت بأنشطة
تجارية ودعوية، بينما ظل مبارك يفضل التعامل الأمنى معها من خلال جهاز مباحث أمن الدولة.
من دون أن يلحظ حجم التغير داخل الأجهزة الأمنية بما فيها جهاز الشرطة الذى بدا أنه كجزء من المجتمع،
تصله وتتغلغل فيه دعوات الجماعات وأفكارها عن الإيمان والخلاص، وتنحى وكل الملفات التى تسلمها
من السادات متضخمة وتطورت وتحورت بينما ظل نظام مبارك ثابتا حتى تساقط كأوراق الخريف.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]على كل الأحوال، فإن مبارك لا يزال ماثلا، أو هو ماض مستمر، ولاشك أن أسطورته تظهر أكثر بعد رحيله،
فقد أبدى تماسكاً فى مواجهة عواصف ضخمة، وثورة اقتلعت نظامه، كما أنه خضع لمحاكمة هو وأسرته،
وعاش ليرى نفسه خارج السلطة وكلها عواصف كانت كافية لاقتلاع أعصابه، لكنه بقى ليشهد ما بدا أنه
نبوءة قبل التنحى، وخطب قائلاً: «على المصريين الاختيار بين الاستقرار أو الفوضى».
مبارك ليس شخصاً، بل هو طريقة تفكير، لا يمكن لأحد أن يكررها كما كانت، وأى قادم جديد عليه أن يدرس تجربة مبارك،
ليتعرف على الكيفية التى كانت تدار بها الأمور.
وقد بدأت هذا المشروع للكتابة عن نظام مبارك فى محاولة للبحث عن الطريقة التى يحكم بها، وهل هو فرد أم نظام كامل،
بحثا عن تفكيك طريقة التفكير التى كانت تدير شؤون البلاد طوال ثلاثين عاما.
وفى هذا السياق، فإن حسنى مبارك الرئيس الذى تولى فى عام 1981، بعد اغتيال الرئيس أنور السادات،
لم يكن هو نفسه الذى ظل يعاند طوال ست سنوات، ويرفض تعيين نائب له، وهو أحد الألغاز التى حاولنا البحث عنها،
فى طريقة الحكم، وأيضا استنادا لتفسيرات، تبدو أحيانا خارج نطاق المنطق
، وتتعلق بنبوءات عرافين، وسياقات للتشاؤم والتفاؤل.
ونبحث عن علاقة البدايات بالمصائر، وهل تحدد بدايات ونشأة الشخص شكل مصيره بعد عقود طويلة،
بالطبع لم يكن مبارك يتصور أن تكون خاتمة حكمه بالتنحى عقب مظاهرات شعبية ضخمة،
ولو كان يتوقع أن يكون مصيره الطرد من السلطة، ربما اتخذ سياقا آخر، وتصرف بشكل مختلف،
لكن الحقيقة أن أحدا لا يعلم الغيب، فقد كانت عصا النظام تتآكل مثل عصا سليمان وهو ميت مرتكزا عليه،
ولولا أن النمل أكلها لظل الجن يعملون وظلوا «فى العذاب المهين»، وقبل سنوات فى بدايات الألفية كتبت
تحقيقا عن «عصا الدولة التى أكلها النمل» بعد تراكم الحوادث، وتكرار الكوارث، وتراكم المرض والفقر.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]هل كان يمكن لمبارك أن يواجه مصيراً آخر؟ مبارك حكم مصر ثلاثين عاماً، وقبلها 6 سنوات نائباً للرئيس السادات..
وتجاوز فى حكمه مدد الرؤساء الثلاثة نجيب وعبدالناصر والسادات، ولم يجاوزه فى العصر الحديث
سوى محمد على «من 1805 إلى 1848»، وخلال حكم مبارك ولدت أجيال، ورحلت أجيال،
وتفككت أنظمة ودول، وبقى مبارك، وبعد تنحيه وحتى الآن هناك قطاع لا يستهان به يدافع عن مبارك،
بينما تمسك آخرون باعتباره سبب كل ما يجرى لأنه حصل على كل الفرص الممكنة
ليضع مصر ضمن الدول الكبرى.
هل كان من الممكن لمبارك أن يختار مصيراً آخر، وأن يخرج من السلطة معززاً مكرماً،
ليحتل مكانة أفضل من مكانته كحاكم سابق يخضع للمحاكمة؟ التاريخ ليس فيه لو،
ثم إن مبارك كان من الرؤساء المحظوظين، حصل على فرص لم تتح لغيره من الرؤساء،
تسلم مصر وهى ليست فى حالة حرب، بينما الحروب دفع ثمنها عبدالناصر والسادات،
ثم إن السادات دفع ثمنا إضافيا للسلام الذى أبرمه مع إسرائيل، وهو ثمن كلفه حياته،
وأيضا هجوما وانتقادات واتهامات.
تسلم مبارك مصر من دون حروب ولا مفاوضات، وجنى ثمار السلام ورفع العلم على سيناء
بعد خروج الاحتلال الإسرائيلى.
كما نجا مبارك من مصائر لرؤساء وأنظمة أخرى، تفكك الاتحاد السوفيتى، وسقط سور برلين، وخاض صدام حسين حربين،
وفى الثالثة تم إسقاط نظامه بالغزو، وظل حسنى مبارك من دون أن يرى دواع لتغيير طريقته فى الحكم
، ورفض الاستسلام للزمن والمسافة، وتمسك بالاستمرار فى السلطة بالرغم من الوهن والمرض وقوانين البيولوجيا،
بل إنه ترك باب التوريث مفتوحا أحيانا، أو موروبا أحيانا أخرى، وغامضا طوال الوقت،
وكانت الفرصة الأكبر لمبارك، الإشارات والتنبيهات والتجاهل.
بعد انتخابه رئيساً فى عام 2005، يومها كان مبارك فى السادسة والسبعين من عمره، وأمامه 6 سنوات
تصل به إلى الواحد والثمانين، وكان الحديث عن التوريث بدأ وتصاعد بما يحيطه من غموض.
يومها كانت المعارضة قد اشتدت وظهرت حركات، ورفعت النخبة أصواتها بالتحذير من انهيارات ظهرت بسبب
شيخوخة النظام، وكانت هناك مطالب بأن يعلن مبارك بوضوح أنه لن يترشح مرة أخرى،
وأنه سيشرف على انتخابات تأتى برئيس جديد، لكنه أعلن أنه سيواصل البقاء «حتى آخر نفس»،
تاركاً باب التوريث مواربا. رفض أى حديث عن عقد اجتماعى ودستور جديد، يعيد تجديد الدم الذى تجمد،
والتكلس الذى أصاب كل شىء. لم يسمع، وجاءت انتخابات مجلس الشعب فى
2010 لتكشف عن جشع سياسى لفريق جمال مبارك وأحمد عز، ورغبة فى الاستحواذ، والاستبعاد،
وضاعت الفرصة الأخيرة، وحتى هؤلاء الذين ينفون نية التوريث، لايقدمون تفسيراً لزحف وسيطرة
لجنة سياسات جمال، وهو أمر تم بغباء وغياب للرؤية. وخرج مبارك ليؤيد هذا كله ويبرره، لتبدأ مرحلة السقوط.
لم يفكر مبارك فى إيقاف الانحدار، وربما إنقاذ نفسه من مصير بدا محتوماً، وظل يثق فى قدرته على الاستمرار،
بينما كانت الأوضاع تتغير، والخيوط تفلت من يديه خيطا وراء آخر.