ومن عجيب هذا أن يسخر الله للعبد على غير ميعاد سابق من يضع يده على مفتاح النجاة،
وقد حدث معى هذا قريبا، وأقوله من باب نعمة الله علينا، وتذكيرا بأهمية تلك الإشارات، وعدم إهمالها.
ففى ذات يوم، كنت أراجع لتلاميذى فى المعهد الأزهرى الماضى القديم من القرآن،
وكان الدور على جزء تبارك، وإذا بطالبة اسمها (آلاء)، تقول لى: سأسمع سورة (الأحقاف)،
فقلت لها: ليست هى الماضى، فأصرت على تسميعها، فقلت لها: سمعى، فقرأت حتى وصلت إلى
قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً"، تذكرت أنى أتم فى هذا اليوم أربعين سنة، فأخذت أفكر فى الأمر كثيرا وأتدبر فى الآية، فوجدت فيها رسائل كثيرة لكل من بلغ الأربعين من أمثالى،
وسأتوقف مع الآية كريمة وقفات. حتى إذا بلغ أشده قال تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً" [الأحقاف:15]،
قال القاسمى: حتى إذا استكمل قوته وعقله وبلغ أربعين سنة، وفى ضوء منهج تفسير القرآن بالقرآن
هل نستطيع أن نوجد من القرآن الكريم تفسيراً دقيقاً لمعنى (أشده)؟ يقول تعالى فى سورة النساء:
"وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ" [النساء:6]، إذا ضممنا هاتين الآيتين إلى بعض وفهمنا هذه الآية فى ضوء تلك استطعنا أن نفسر قوله تعالى:
(حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)،
لأن الله سبحانه وتعالى قال فى سورة الأنعام: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، ما معنى أشده؟ أوضحها الله سبحانه وتعالى فى سورة النساء فى قوله تبارك وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، إذاً: فى ضوء تفسير القرآن بالقرآن نفهم أن قوله تعالى هنا: (حتى إذا بلغ أشده) أى: بلغ الحلم،
(وبلغ أربعين سنة) أى: بعد ذلك وهو غاية الكمال والنضج البدنى والعقلى.
معنى قوله: (وبلغ أربعين سنة...)
قوله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى [الأحقاف:15]،
أي: أمهلنى، أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى وَعَلَى وَالِدَى [الأحقاف:15]،
أى: بالهداية بالتوحيد والعمل بطاعته وغير ذلك، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى [الأحقاف:15]
أى: واجعل الصلاح سارياً فى ذريتى راسخاً فيهم، (( إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ )) أى: من ذنوبى التى سلفت منى،
(( وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) أى: المستسلمين لأمرك ونهيك المنقادين لحكمك.
إذاً: يستحب لمن شرع فى الأربعين فما فوقها أن يكثر من هذا الدعاء:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى وَعَلَى وَالِدَى وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لأنه إذا بلغ هذه السن فقد بدأ المرحلة الأخيرة من العمر، أو بتعبير آخر يسمونها فى الطب العمر المتوسط،
وهو السن الذى يبدأ من الأربعين إلى الستين، وما بعد الستين يسمونه الشيخوخة،
بخلاف العرب فإنهم يعدون من بلغ الأربعين شيخاً.
وقال بعض السلف: تركت الذنوب حياءً من الناس أربعين سنة، وتركتها حياءً من الله أربعين سنة، وقال بعضهم: إن سن الأربعين هو مصدر لإلهام كثير من الأدباء والشعراء بكثير من المعانى
التى تفيض بمشاعر من قد اقترب من القبر جداً،
ولذلك يقول بعضهم: تمسكت بعد الأربعين ضرورة ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ يعنى: لم يبق لى إلا أن أتمسك، ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ عندما يأتيه أجله، فهى السن التى يبدأ الإنسان
يترقب فيها حضور أجله، فإن الإنسان فى فترات الفحولة والصبا والشباب إذا سلم من الآفات
فى كل هذه الفترات فهو كالزرع إذا سلم من الآفات فى جميع مراحل نموه، لكن مهما نما ومهما سلم
فسوف تكون نهايته الحصاد، فلابد أن يحصد حتى وإن سلم فيما مضى من السنين.
ومن عجيب نظم القرآن أنك تجد هذه الآية الكريمة تقع بعد قول الله عز وجل:
" إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ..". وكأن لزوم الاستقامة قد آن وقته،
وحان موعده،بعد سنين اللهو واللعب،وترك النفس فى مهب ريح الشهوات،
وملعبة فى يد شياطين الإنس والجن.
إن للنفوس بعد أن تمت النعمة عليها بمختلف أنواعها؛ نعمة العافية، ونعمة الزواج، ونعمة الولد ، ونعمة المال
، ورجاحة العقل، ونضوج النفس، فقد بلغ العبد أشده فى كل شىء، لذا وجبت الاستقامة،
والنظر إلى الدار الآخرة، وتصحيح المسار.
ولينتبه العبد أنه بعد بلوغ الأشد ليس بعده إلا الهبوط، فهذا هو سن القمة وبعده يخطو العبد خطواته إلى الآخرة، فلا ينبغى أن يضيع باقى عمره كما فرط فيه سابقا.