هذا مقال كتبته وقت حظر التجول أيام العسكر.. واستدعى من الذاكرة فيلم ستانلى كوبريك،
أحد أحب أفلامى المفضلة.. ويستدعى اليوم أفكارا تتأمل فى مسألة التدجين والتمرد..
الركون إلى اختيارات عليا تريحك إلى الاستسلام وامتصاص الحياة منك وتحويلك إلى كائن بلاستيك..
تصلح لأن تزين أى ماكينة سلطوية ووصاية.. والأهم أنه يفسر لى كيف يبرر ناس طيبون
جريمة ديكتاتور بائس.. كيف يسيرون كالعميان خلف شيخ ببغاء..
وكيف يرددون كلاما خارج من فوهة فم إرهابى سابق..
.. سأتأمل معكم من جديد..
....
....
.. «ساعة الحظر ماتتعوضش».
كلما قلتها ضحك أصدقائى، وكنت أظن أن هذه هى المشاعر الطبيعية..
أعرف طبعا أن التربية العاطفية ربما تفسد الطبيعة..
وأعرف ما تفعله ماكينات الترويض.. العمومية.
.. إنها تمتص العصير من البرتقالة لتتحول إلى برتقالة بلاستيك، تشبه البرتقال،
لكنها ليست إلا «برتقالة آلية»، كما سميناها فى فيلم ستانلى كوبريك.
ماكينات محترفة فى صناعة قطيع من «الآليين» منزوع منهم حق الاختيار
، يسيرون وفق كتالوج من القيم والأخلاق والمشاعر يجعلهم مثلا يخافون من قرار إنهاء حظر التجول
، لأن هذا يعنى أنه سيكون أمامهم الاختيار، وهم تعودوا على الخضوع للأوامر والتعليمات.
كوبريك حكى عملية تحويل «أليكس» من زعيم عصابة ليلية إلى مواطن طيب يكره العنف،
عبر ماكينات ترويضه فى السجن، أفقدته «حق الاختيار»، هل تغير الشاب المتمرد؟
أم أن إدارته سلبت ولم يعد أمامه إلا السير فى «الطريق الصحيح» من وجهة نظر المروض؟
سيشعر هؤلاء بالأمان فى ظل حظر التجول، لأنه قرار بمنع الاختيار، والسير حسب تعليمات سلطة عليا،
خبيرة فى برمجة البشر داخل مصانع عملاقة، لها أفرع فى كل مدرسة وبيت،
لكن معرضها الرئيسى فى التليفزيون مروض الشعوب الأول.
.. التربية هنا هى نزع حرية الاختيار، وتصنيع شخص لا يختار الأخلاق الرشيدة،
لكنها تفرض عليه، لا يتحمل مسؤولية أفعاله، لكنه يسير حسب خط سير القطيع.
لا عواطف شخصية ولا حق فى الاختيار، ميزة الإنسان الأولى، لهذا يرفض البعض إلغاء الحظر
، كما يحبون الرقابة، ويبكون عندما يظهر مبارك فى خطابه العاطفى، ويلغى به كل إمكانية للتفكير،
ويوقظ التربية الآلية، فالرجل الكبير يكاد يبكى، وهذا يكفى.
لا أحد يفكر فى استبداده، ولا فساده، المهم أنها صورة تثير الشجن،
وتحرك العواطف الآلية، والديكتاتور يعرف مفاتيح الترويض.
العواطف جاهزة، والدموع مبتذلة تتحرك كأنها مكتوبة فى نص لا يراه صاحب الدموع،
لكنه نص مكتوب من زمن طويل، تستجيب فيه العواطف إلى أكليشيهات محفوظة
وجاهزة وتعاد كأنها سر الكون.
كتالوج ترويض لا يفكر الملتزمون به مرة واحدة فى أنهم محرومون من الاختيار،
وكل محروم من الاختيار، هو عبد يسير فى طريق واحد، منزوع منه روح التمرد،
وممنوع عليه التفكير فى ما يراه.
كيف يمكن البكاء على ديكتاتور قتل وسرق؟ وكيف يمكن إجبار زوجة على الحياة مع زوج لا تحبه فقط لكى تحافظ على صورة العائلة؟ وكيف يمكن إجبار شاب على دراسة لا يجد هواه فيها لأنها ستحقق أحلاما أبيه؟ .. هل الأمان فى الحظر أمان؟ وهل الأخلاق عندما تكون مفروضة بكتالوج العواطف الجاهزة أخلاق؟ .. وبالطبع «ساعة الحظر ماتتعوضش».. لأنها ساعة التمرد على قوانين البرتقالة الآلية.