«من لا يدرك عشرات التفاصيل والتفاوتات فى المواقف وتطوراتها، فلا مجال له فى العمل السياسى، وأنصحه بأن يشتغل مربية أطفال».
كاتب الموضوع
رسالة
شهرزاد Admin
عدد المساهمات : 5700 تاريخ التسجيل : 05/03/2013
موضوع: «من لا يدرك عشرات التفاصيل والتفاوتات فى المواقف وتطوراتها، فلا مجال له فى العمل السياسى، وأنصحه بأن يشتغل مربية أطفال». الإثنين مايو 13, 2013 9:19 am
معتز بالله عبد الفتاح
أخطر أنواع البشر هم أولئك الذين لا يرون إلا بديلين فقط، ويتناسون البدائل الأخرى،
أو يكونون فى حالة ذهنية ونفسية تجعلهم محكومين باللاوعى (أى اتخاذ قرارات وفقاً لخبرات سابقة)
الرافض للبحث عن بدائل أخرى. بل إن دارسى علم النفس يعتبرون الأشخاص
الذين يتبنون منطق الثنائية المفتعلة أو ما يسمونه بالإنجليزية:
(false dilemma, all or nothing, black or white)
يعانون من «خلل فى الشخصية» (personality disorder)
وليس بالضرورة مرضاً نفسياً. والفرق بينهما كبير. وأسباب هذه الظاهرة، كما يقول علماء النفس السلوكيون،
متعددة، لكنها عادة ما ترتبط بمواقف صراعية عنيفة تترك آثاراً نفسية حادة
مثل السيدة التى تمر بتجربة طلاق صعبة، فتنتهى إلى أن «الرجال كلهم كده»
أو من يسافر إلى دولة ويجد فيها معاملة غير لائقة فينتهى إلى أن «المصريين دول كلهم كذا..».
أزعم أن بعضنا يفكر بهذه الطريقة تماماً، ويعانى من هذه النظرة القائمة على توقعات مرتفعة للغاية
تعقبها إحباطات شديدة؛ فيدهن الكون بلونين لا ثالث لهما إما كذا أو كذا.
ونجد أن القرآن الكريم قال صراحة إن علينا أن نتجنب هذا النمط من التفكير بقوله:
«لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ...»، وفرّق بين بعض أهل الكتاب؛ فمنهم من إن تأمنه بقنطار
يؤده إليك ومنهم غير ذلك، ومن الكفار من علينا أن نقاتله، ومنهم من إذا استأمنّا أمّناه.
ويقول ماكيافيللى السياسة الخارجية الأمريكية، هنرى كيسنجر لطلابه:
«من لا يدرك عشرات التفاصيل والتفاوتات فى المواقف وتطوراتها، فلا مجال له فى العمل السياسى،
وأنصحه بأن يشتغل مربية أطفال». يقصد أن التمايزات فى المواقف والتفاصيل وتحقيق المكسب الممكن
والمتدرج مهارة لا تقل فى أهميتها عن تبنى مواقف حادة ومتصلبة.
طيب، ماذا يقول علماء النفس أمام هذه الحالة. هم ينصحوننا بعدة أمور هى أقرب إلى تمرينات ذهنية
نقوم بها مثلما نمارس الرياضة البدنية.
أولاً، افتح عقلك لأفكار جديدة وبدائل أخرى. يعنى لا تتعامل مع الناس على أنهم إما عملاء لجهات أجنبية
أو أنهم وطنيون مخلصون. الكون ليس بهذه البساطة، هذه طريقة تفكير الأطفال الذين يميلون إلى التسطيح المخل.
من الممكن أن يكون هناك إنسان علمانى متدين (يصلى ويصوم ويحج وله خلق طيب ولكنه قد يخشى على الإسلام من المتاجرين به)،
وهناك علمانى غير متدين، بل هناك كذلك علمانى ملحد، وهناك إسلامى ليبرالى، وهناك إسلامى متشدد،
وهناك إخوانى معترض على سياسات الدكتور مرسى،
وهناك سلفى يؤمن بالعدالة الاجتماعية أكثر من إيمان بعض اليساريين بها.
هذا كله ممكن ومتاح، ولو دققنا النظر فى من حولنا سنجد أمثلة حية لهذه التفاصيل.
ثانياً، اخفض مستوى توقعاتك. التوقعات الكبيرة تجعلنا نعيش أحلاماً كبيرة ونفترض أن أسباب نجاحنا الماضى
ستكون هى ذاتها أسباب نجاحنا اللاحق. وهذا يتعارض مع عنوان كتاب شهير يقول:
«What got you here won’t take you there»
بمعنى أن نجاحك فى مرحلة ما بسبب مجموعة من الإجراءات التى اتخذتها فى ظروف معينة
لا يعنى أن نفس الإجراءات فى ظروف أخرى سيترتب عليها نفس النتائج. ولهذا اخفض توقعاتك
وركز على تطوير إجراءاتك، ولا تتهم الآخرين بسبب فشلك فى أن تخرج من شرنقة المثالية والنجاح الماضى.
لا تكن حبيس توقعات مرتفعة بسبب أمجاد سابقة. كُن واقعياً.
ثالثاً، انظر إلى المناطق الرمادية، بين ما تعتبره صواباً مطلقاً وما تعتبره خطأً مطلقاً،
حيث توجد مساحة من الأمور المختلطة والتى يصعب حسمها بمنطق الصواب المطلق والخطأ المطلق.
أرجو قراءة رواية «البؤساء» لفيكتور هيجو، حيث الطفل الجائع جان فالجان الذى يسرق ليأكل
ويدخل السجن ويخرج منه ثم يسرق، ثم يلتقى قساً يسرقه ولكنه يدافع عنه
ويؤويه لأنه رأى ما فيه من خير كامن تحت سطح الشر.
رابعاً، توقف عن استخدام «كلمة واحدة» لوصف شخص أو شىء. حين نعمل مقابلات شخصية
مع متقدمين لمناصب فى الخارج، كنا نستبعد بشكل تلقائى أولئك الاختزاليين لأنهم لم ينضجوا بعد.
الاختيار لك: إما أن تكون سياسياً أو مربية أطفال أو ما بينهما.
هذا جزء من الحال، وربما يكون جزءًا من الحل «باختصار».
«من لا يدرك عشرات التفاصيل والتفاوتات فى المواقف وتطوراتها، فلا مجال له فى العمل السياسى، وأنصحه بأن يشتغل مربية أطفال».