07.30.2013
خالد البرى
«١»
أرسل النبى سرية بقيادة عبد الله بن جحش وفيها ثمانية من المهاجرين لـ«اعتراض»
عير لقريش يحرسها أربعة أشخاص، فى مكان بين مكة والطائف.
كان ذلك فى نهاية جمادى الآخرة، لكن الأشهر الحرم دخلت، و«سرية» عبد الله بن جحش
قتلت صاحب العير، عمرو بن الحضرمى،
وأسرت رجلا آخر، واستولت على ما فيها غنائم.
ولقد أنكر عليهم الرسول ذلك، هذا خطأ، خطأ شنيع، لماذا؟ لأن القواعد المعلنة المحترمة
فى الجزيرة العربية تقضى بعدم القتال فى الأشهر الحرم، بل أكثر من ذلك،
لقد أعلن المسلمون احترامهم هذه القواعد، وتعظيمهم لها. والآن لم يوفوا بفضيلة إعلام الآخرين
بإبطال القواعد إن أرادوا إبطالها. هذا بالنسبة إلى العرب غدر.
وفى مجتمع كذلك قائم على المقايضة والإقراض والجيرة والتحالفات،
فإن الغدر يأتى فى قاع الرذائل.
وفعلا شاع بين العرب أن محمدا وأصحابه ينتهكون الأشهر الحرم، وغضب المسلمون
ممن كان فى السرية حتى شق عليهم، لكن الوحى نزل بعد ذلك يقر عبد الله بن جحش على مخالفته
-السابقة لنزول الآيات- للقواعد. «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ».
النبى يعلم أن خرق القواعد خطأ. لا جدال فى هذا. لكن الوحى،
الوحى، الوحى، هو الذى أعفاه. لا شىء آخر.
«٢»
لو كنت مسلمة ستتقبلين تماما هذا، تغيير القواعد من جانب واحد. وتتقبلين مبرراتها،
لماذا؟ لأنك مؤمنة بالوحى، ليس فى الأمر منطق خارج الوحى،
وإلا لأقرهم النبى والصحابة من البداية، ولم ينتظروا الوحى حتى ينزل،
لو لم تكونى مسلمة ستعتبرين أن الدين يستخدم لإعطاء أصحابه ميزة تفضيلية تبرر لهم ما يفعلون،
وستعتبرين أن هذا غدر واضح (هذا ما اعتبره النبى والصحابة قبل نزول الوحى)،
لماذا؟ لأنك لست مؤمنة بالوحى.
أى أن الوحى هو الفارق.
«٣»
فى تعليقه على سرية عبد الله بن جحش يقول سيد قطب:
«إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد فى هذا المبدأ ويصونه،
ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين،
ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر» انتهى.
لقد حول قطب الحادثة، من حادثة أقرها الوحى، وخصها بالأشهر الحرم،
وبالعلاقة بين المسلمين وكفار مكة الذين أخرجوهم من ديارهم، إلى حكم عام،
تستطيع جماعة «الطيبين، الصالحين، المؤمنين» استخدامه، حينما يعن لها ذلك.
ليس فقط فى الأشهر الحرم، إنما فى الحرمات كافة.
حرمة المال والدم والعرض والبيوت والاعتقاد.
ثم إن الآيات أعلنت قاعدة جديدة، فكأن خرق القاعدة كان مرة وعدت، أما فى حالة قطب
فإنه يفترض إمكانية خرق القواعد المعلنة «الحرمات» مرة أخرى.
ليس هذا فحسب. تعالى نبدل الصفات التى أوردها قطب بكلمة الناس:
«… ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الناس،
ويقتلون الناس، ويفتنون الناس، ويرتكبون كل منكر».
لاحظى الفرق بين جملة قطب، وبين الجملة البديلة.
جملة قطب تحتفظ بهذا الحق فى الردع، ورد الأذى، له ولجماعته من «الطيبين الصالحين المؤمنين»،
فى مواجهة الآخرين. أما فى الحالة الثانية نعمم القاعدة، بحيث يكون من حق من تعرض للأذى
كائنا من كان أن يسقط حرمات من آذاه. وتكون هذه هى القاعدة المعلنة من البداية،
مواجهة بلا «حرمات»، من قبل الجميع.
هل أدركت الآن لماذا يحبون أن يطلقوا على أنفسهم ألقابا مثل «الساجدين، المصلين، الأطهار».
ولماذا يختارون مسجدا للاعتصام وليس ميدانا عاديا؟ ولماذا يقولون «قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار»؟
هل أدركت لماذا الآخرون ليسوا «معارضين»، إنما عبدة فرعون، أو منافقون، أو بلطجية؟
إنهم يبحثون عما يبرر لـ«المؤمنين الصالحين الطيبين» أن يخرقوا قواعد اللعبة،
وقت أن يناسبهم. حتى فى غياب وحى يبرر لهم هذا. يستعيضون عن ذلك بالفتاوى، والرؤى.
هذا جوهر الإسلام السياسى، وهذه مشكلة الإسلام السياسى. مشكلته فى جوهره. أن أبناءه
يحررون أنفسهم من التزامات يطالبون بها الآخرين،
ويطالبون لأنفسهم بحقوق لا يتكفلون بها للآخرين.
يظنون أن قادتهم أنبياء، وأن آراءهم وحى.