لأن التاريخ لا يشكله دائماً العقلاء
ابراهيم عرفات
هل ستتحسن الأحوال فى مصر؟ الإجابة نعم. لكن متى؟ لا أحد يستطيع أن يجيب.
لماذا؟ لأن الأحوال، كما نرى، تسوء ويُنتظر أن تسوء أكثر قبل أن تتحسن.
فعادةً ما تضيق الأمور قبل أن تُفرج. وقد ضيَّقتها القوى السياسية المصرية بشدة
وهى تعاند بعضها. فلا هى تتحاور كما ينبغى أن يكون الحوار ولا هى تتنازل لبعضها
كى يجتاز الوطن محنة لن تترك أحداً ينجو من نيرانها لو اشتعلت.
قوى على جانبى الحكم والمعارضة تُظهر جهالة بمعنى الحكم والمعارضة
فى الأقوال والأفعال. قسمت الوطن إلى كتلتين مع أن الكتلة الأكبر من المصريين
لا تقف مع الحكومة ولا المعارضة. فغالبية المصريين تشكو من الطرفين وتراهما
مثيرين للفتن يعكران صفو الوطن ويقضيان على آماله. طرفان أنانيان يمثلان مصالح الفئات
المحدودة المنضوية فيهما. أما المواطنون البسطاء فيتحدث الواحد منهم مع الآخر معلناً
غضبه الشديد من الإخوان واستياءه البالغ من المعارضة.
وغير صحيح أن الإخوان وجبهة الإنقاذ يحكمان الشارع ويضبطان تفاعلاته.
فالشارع بات يتحرك من تلقاء نفسه. وبالذات الشباب الذين بدأ بعضهم يمل وينفجر.
فبعد سنتين من الثورة لم يروا نتائج ملموسة. ولهذا اندفع بعضه نحو العنف معتقداً
أن ذلك بإمكانه أن يحسم معركتين آن لهما أن تنتهيا: معركة تصفية بقايا النظام القديم
التى لم يتمكن الإخوان وجبهة الإنقاذ من حسمها. ومعركة إزاحة الطماعين من الإخوان
الذين يرون أنهم اغتصبوا السلطة، والضعفاء من جبهة الإنقاذ
التى يرون أنها لا تزيد عن صوت إعلامى للمعارضة.
لقد عكّر الطرفان الأجواء، وما زالا يعكرانها، وسوف يعكرانها خلال الأسابيع القادمة.
فلا همّ للإخوان إلا تنظيم الانتخابات البرلمانية بأقصى سرعة. ولا همّ لجبهة الإنقاذ
إلا تعطيل هذه الانتخابات لأطول فترة. الإخوان يريدون الاستحواذ على سلطة التشريع
بجانب سلطة التنفيذ ليصدروا سلسلة قوانين تمكنهم من إنجاز ما رغبوا فيه لأكثر من ثمانين عاماً.
أما جبهة الإنقاذ فتقف مترددة بين المشاركة فى الانتخابات لعلها تفوز بالأغلبية ومقاطعتها
حتى تحرج الإخوان وتلقى بالمسئولية كاملة على عاتقهم.
ومن البيّن أن الأحوال ستُعكَّر أكثر. لكن كما يقول المثل «عكرها تصفى».
وهو المقابل العامى للحكمة المعروفة «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج».
ستضيق الأحوال وتُعكر لأن المقدمات تشى بذلك. ستتأزم الأوضاع أكثر إلى أن يتعظ الطرفان.
وهما إلى الآن لم يتعظا لا بالنصح ولا بمناشدة العقلاء. ولا غرابة فى هذا. فبعض الناس
أسرع من الآخر فى الاستيعاب وقد لا يصدقون من ينبههم إلى خطر قادم وإنما قد يتعظون
فقد بعد أن يرونه أمامهم. وحينها سيكون الوقت قد فات.
أمامنا أيام عكرة قادمة أتمنى أن نتفاداها. وأخجل من القارئ الكريم وأنا أعكِّر عليه صفو يومه
بمثل هذا الاستنتاج. لكن المقدمات واضحة لا يملك راشد أن يضع رأسه فى الرمال حتى لا يراها.
اقتصاد يتراجع. سياحة متوقفة. تحذيرات من دول أجنبية لرعاياها بعدم السفر إلى مصر
حتى 4 مايو، أى ما بعد الانتخابات. ضحايا يسقطون فى الشوارع. ميليشيات تتكون.
مؤسسات شرطية مرتبكة. وقوات مسلحة تستطيع أن تحفظ الأوضاع لكن عند مستوى قدراتها.
أما لو فاق الاضطراب قدراتها فقد لا تصفو الزوابع العكرة التى يثيرها الطرفان
إلا بعد مدى لا يعلمه إلا الله.
العقلاء يدركون أن التعكير الذى نعيشه لم يكن له ضرورة لو فهم محدثو السياسة
أنها ليست انفراداً ولا هيمنة ولا سرقة. لكن ما حدث أن مستجدين فى شئونها ومحدودى الخبرة
بأحوالها تصدروا المشهد فأربكوه وعكروه. وليس أمام الوطن بعد أن زاد عدد المعكرين
وتبينت ضحالة مستواهم إلا أن يصبر لأن التاريخ لا يشكله دائماً العقلاء وإنما يؤثر فيه
كذلك المتطرفون والمعكرون إلى أن يثبت عجزهم لتبدأ الأمور بعدها تصفو وتستقيم.