الشىء الوحيد الذى يلازم الإنسان ولا يفارقه فى الدنيا والآخرة هو عمله، وما عداه يتخلى عنه
حتى ماله وسلطته ونفوذه وزوجته وأولاده.
قال تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (عبس: 34: 37).
أما عمل الإنسان فهو ظله فى كل زمان ومكان، وعندما يموت وتفارق الروح الجسد
فإن العمل تستنسخ منه صورة لتلاحق الروح حيث أودعها الله، ويبقى العمل مع الجسد فى القبر
ليراه الزائرون والذاكرون إلى قيام الساعة.
وقد أخرج الحاكم وصححه، عن أنس بن مالك،
أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا مات الميت تبعه ثلاثة أخلاء: أما خليل فيقول:
ما أنفقت فلك وما أمسكت فليس لك، وذلك ماله. وأما خليل فيقول: أنا معك فإذا أتيت باب الملك
تركتك ورجعت، فذلك أهله وحشمه. وأما خليل فيقول:
أنا معك حيث رحلت وحيث خرجت، فذلك عمله. فيقول: إن كنت لأهون الثلاثة».
هكذا يحذرنا الرسول، صلى الله عليه وسلم، من الغفلة التى تجعلنا نندم أمام عملنا ونقول له متحسرين:
لقد ظلمناك وكنت عندنا أهون من المال والأهل، وقد أدركنا بعد فوات الأوان أن قيمة الإنسان
وخلاصة حياته فى عمله الذى قدمه فى أى مستوى سياسى كان رئيسا أو مرؤوسا،
وفى أى مستوى مالى كان غنياً أو فقيراً، وفى أى مستوى اجتماعى كان صاحب ولد أو منقطع العقب.
إن التاريخ فى الدنيا والوضع يوم الدين لن يكتب بوصف المنصب أو المال أو الولد
وإنما سيكتب بحق العمل قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا
وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا
وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» (آل عمران:30).
إذا عرفنا أن قيمة الإنسان فى عمله وليس فى منصبه أو ماله أو ولده؛ فإن الصراع بين البشر سيهدأ
ولن يتنافس العقلاء على الكرسى أو الصفقة أو الزوجة، وإنما سيتنافسون على حسن العمل
فى أى موقع كان؛
فقد أخرج مسلم عن أبى ذر أنه قال: يا رسول الله ألا تستعملنى؟
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة،
وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها».
ولن يتساءل الحكماء عن الترقى فى المناصب وإنما سيتحاسدون فى العمل الصالح والعلم النافع؛
فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال:
«لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق،
ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس».
إن اعتبار قيمة الإنسان بعمله وليس بمنصبه ضرورة فطرية لقيام الدنيا وحق دينى لإظهار وجه العدل الإلهى
بين البشر؛ لأن المناصب لا تكون إلا لمعدودين وليس من المنطق أو العدل
أن يكونوا أهل اعتبار دون غيرهم، فى الوقت الذى يزولون فيه كما يزول آحاد الناس؛
فقد روى عن الإمام على أنه قال: «كم من ملك رُفعت له علاماتٌ فلما علا ماتَ».
من هنا كان العمل وحده هو رصيد الإنسان الحقيقى فى حياة الناس ويوم لقاء رب الناس.
والإنسان وحده هو الذى يشكل عمل نفسه، بحسب قناعته، وعليه أن يتحمل تبعته،
ولا عذر لأحد أن يقامر على معاهدة أميره فى الدنيا بالسمع والطاعة ثم يأتى يوم القيامة
ويعتذر ببيعة غير الله الذى جره إلى ارتكاب الفساد من قتل أو ضرب أو حتى سوء ظن بالآخرين؛
لما أخرج مسلم عن على أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما الطاعة فى المعروف»،
مع قوله تعالى: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (الزلزلة: 7، 8).
وكان من رحمة الله سبحانه بخلقه الذين عدل بينهم أن فتح لهم آفاق العمل وسبله بحيث إذا انسد
أمام أحدهم طريق فإنه يفتح أمام الساعى ألف طريق آخر حتى لا يضيع عمره فى الجدل والكلام
الذى يصرفه عن العمل والإنتاج.
فقد أخرج الترمذى والحاكم وصححه وحسنه الألبانى عن أبى أمامة أن النبى، صلى الله عليه وسلم،
قال: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل».
إن الدنيا متعددة المسالك؛ فلا عذر لكسول أو خامل،
كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا» (النساء: 97).
إن أفضل نصيحة يقدمها الإنسان لأحد، خاصة فى هذه الأوقات التى تتعافى فيها مصر من الحكم العنصرى
إلى حكم العدل، هى الانتفاع بالعمر والوقت لزيادة الرصيد من العمل الذى ينفع صاحبه فى الدنيا والآخرة
دون التوقف والجمود ولو كان باسم الاعتصام المضيع للفرص البديلة والعطاء المتجدد،
كما قال سبحانه: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (التوبة: 105).
إنها دعوة قرآنية أن نتواصى بالعمل. وللحديث بقية.