رحلة الإنسان فى الدنيا تنتهى بموته ويتحول بعد ذلك فى الدنيا إلى ذكريات وتاريخ لعمله،
كما يصير فى الآخرة مرهوناً به
على وفق قوله تعالى: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *
وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (الزلزلة: 7، 8).
وعمر الإنسان فى الدنيا يمر سريعاً؛ فكلما أفاق إلى نفسه وجد الأجل قد اقترب
أو تيقن أن كثيراً من العمر قد فات. وهذا ما يُعرف بالغرور الذى حذرنا الله منه فقال:
«وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» (آل عمران: 185، الحديد: 20)؛
فالذى يفرح بمنصب يظن زهوه مخلداً، والذى يفرح بمال يظن كثرته تجلب الشباب،
والذى يفرح بامرأة يظن شهوته باقية، لكن سرعان ما تتقلب الأمور وتفوت الدنيا
فلا يجد الإنسان معه إلا عمله، وفى هذه اللحظة يندم كل مغرور
كما قال تعالى: «حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا» (المؤمنون: 99، 100).
ومن أخطر صور غرور الدنيا أن يظن الإنسان أن النجاح فى موقف أو فى صفقة دليل على رضا الله تعالى
ثم يزايد فى ذلك حتى يزعم أنه وكيل الله فى أرضه، أو أنه وجماعته أبناء الله وأحباؤه،
فإذا ما وقع الابتلاء بالسلب لم يصدق ورفض القضاء والقدر، واعتبر نجاح الآخرين
كذباً وغشاً وظلماً؛ لأنه لا يرى إلا نفسه وأن أحداً لا يستحق الحياة إلا هو، وأن الآيات القرآنية
التى تخالف رغباته لا يقف عندها كثيراً أو تستحق التأويل بما يناسب الرغبة
مثل قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (آل عمران: 26).
وهذا صنف من البشر حذرنا القرآن منه
فقال سبحانه: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ» (المؤمنون: 55، 56)،
وقال تعالى: «وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا
وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ» (التوبة: 58).
إن المؤمن بحق يتكيف مع قضاء الله وقدره بالرضا دون العناد فى كل الأحوال حتى يصير مثلاً يعجب له،
كما ورد فيما أخرجه مسلم عن صهيب أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال:
«عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن،
إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
إن الأبرياء وأصحاب النوايا الحسنة من الشباب والفتيات المقيمين فى قارعة الطريق قرابة الشهر
ولا يزالون هم أعز وأكرم من أن يكونوا مناصرين لمن يعاند القضاء والقدر،
ومن يرفض أن يستقبل الحياة بكل ابتلاءاتها، ومن يريد إيقاف الزمن على حلم السلطة
الذى ذاق شهوته سنة كاملة حتى صار عبداً لها، ومن يدعو إلى ترويع الآمنين واستعداء
أبناء العمومة والخئولة والأصهار والجوار والزمالة من عموم المسلمين وغيرهم المسالمين،
ومن يتترس بالنساء والأطفال والبسطاء من الناس ويزج بهم فى مواجهات دامية يسقطون شهداء
واحداً بعد الآخر؛ ليتاجر بدمائهم الذكية فى دول الغرب والمجتمع الدولى
من أجل بقائه وليس من أجل بقاء محبيه ومريديه.
أرجو أن يتذكر المنصفون أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يفدى أصحابه ويقدمهم فى الغزوات،
ومن قبل الهجرة كان قد أمرهم بالبعد عن مكة بسبب إيذاء أهلها لهم بالهجرة إلى الحبشة مرتين؛
لأن ملكها كان عادلاً لا يظلم عنده أحد ولم يكن مسلماً، ولم يجعل منهم دروعاً بشرية يحتمى بهم،
كما لم يجعل منهم فرقة انتحارية للقضاء على صناديد الشرك والظلم؛ لأن رسالته كما قال الله عنها:
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107).
آن للعقلاء أن ينتبهوا، وأن يدركوا معنى قول الله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة: 195).
وحسبى فى حبهم وحب ذويهم أن أهديهم حديثاً نبوياً كأنه جاء لعصرنا،
أخرجه ابن حبان وأحمد والحاكم بسند صحيح، عن جابر بن عبدالله أن النبى، صلى الله عليه وسلم،
قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء». قال: وما إمارة السفهاء؟
قال: «أمراء يكونون بعدى لا يقتدون بهديى ولا يستنون بسنتى، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم
على ظلمهم فأولئك ليسوا منى ولست منهم ولا يردون على حوضى، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم
على ظلمهم فأولئك منى وأنا منهم وسيردون على حوضى. يا كعب بن عجرة:
الناس غاديان؛ فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها».