إنه سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان فى الأنصار بمنزلة أبى بكر فى المهاجرين، شهد بدرًا وأُحدًا
وأُصيب فى خزوة الخندق ومات بعد اندحار الأحزاب ونصر المسلمين عليهم،
وبعد أن أقر الله عينه بهزيمة يهود بنى قريظة، وكانت هذه دعوته لله طوال مدة مرضه.
يموت سعد بن معاذ، تنفطر قلوب المسلمين، حتى كان السامع يفرق بين بكاء أبى بكر وبكاء عمر،
ويقول رسول الله إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد، وإن سبعين ألف ملك شهدوا جنازة سعد..
ما هذه المناقب؟ وكيف حقّق سعد بن معاذ كل هذا الفضل ليستحق هذه المعاملة وهذا التكريم؟
والأهم من كل ذلك كم قضى سعد بن معاذ فى الإسلام ليتقرّب إلى الله ورسوله ويصل إلى هذه المنزلة؟
الإجابة عجيبة.. ست سنوات.. قضى سعد بن معاذ فى الإسلام ست سنوات فقط،
ما بين قبل بيعة العقبة الثانية حتى ما بعد غزوة الأحزاب.
إن كانت هناك حجة على أن الصلة بينك وبين الله ليست بالسنين
وليست فى قضاء العمر وأنت مسلم بالبطاقة وإنما بإخلاص النية وبذل النفس فى سبيل الله
فليس هناك أوضح ولا أجل ولا أشرف حجة من سعد بن معاذ..
فهذا صحابى لم يقض فى الإسلام غير هذه السنين، ست سنوات..
احسبها.. سنة سنة.. شهرًا شهرًا.. يومًا يومًا.. وفكّر ما الذى كان يفعله سعد بن معاذ
أفضل مما فعله غيره ممن كان معه، وممن جاء بعده؟ احذف من المدة نومه، ودخوله الخلاء،
وحديثه مع زوجته، وقضاء حوائج أهله من الأوس والمسلمين كافة إن استطاع،
والأمور الحياتية اليومية لكل إنسان من مقابلات واتفاقات وجلسات..
كم بقى؟ الباقى جهاد فى سبيل الله،
وصحبة لرسول الله، وعمل على نشر دين الله، والأهم من ذلك كله،
الإخلاص وإنكار الذات وكبت غرورها فى سبيل رفعة هذا الدين.
سعد بن معاذ كان سيد الأوس.. شرف ما بعده شرف، ومجد ما بعده مجد، يأتمرون بأمره
ويرتضون بحكمه، رغم أنه كان بالكاد يبلغ الثلاثين من عمره وقتها،
فالشرف والمجد وحصافة الرأى والرؤية لا تعتمد على السن،
وليس شرطًا من شروط التنسيق للوزراء والرؤساء والمستشارين أن يكون المتقدم قد حضر ثورة 1919،
وناضل ضد الإنجليز، العبرة بمن يتقدم بعقله ورأيه وحكمته وفصاحته وترفّعه عن الدنايا
وعن التعالى على الناس.. ورغم كل هذا المجد فإن سعد بن معاذ يترك كل هذا بسهولة وبإيمان حقيقى
ثابت ويتخلّى عن سطوته وحكم قومه، ويعطى كل هذا بلا قيد ولا شرط لرجل لم يأت بعد إلى المدينة
أصلًا وهو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن بقدوم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم،
إلى المدينة ستصبح كلها مؤتمرة بأمر رسول الله دون غيره..
كيف كبت سعد بن معاذ جاهليته وعصبيته؟
كيف روّض نفسه وأسلم قيادها فى لحظات لإيمانه القوى وإخلاص نيّته؟
وكيف رضى أن يهدى قومه جميعًا إلى الإسلام وهو يعلم أنه بإسلامهم قد فقد سيادته عليهم؟
العربات المصفحة، والأتباع المخلصون، ومراسم الاحتفالات الضخمة، وكلمات النفاق الرخيصة،
أو كلمات التأييد صادقة كانت أو ذات مأرب، كل هذه المقومات لا تصنع مجدًا،
ولا تصبغ صاحبها بصبغة الاحترام والتقدير والتكريم الحقيقى فى الدنيا والآخرة،
وإنما ما يفعل ذلك الإخلاص وإنكار الذات، هل تفعل ما تفعله لذاتك..
رغبة فى علو المكانة والشهرة والسمعة وحبًّا فى تلقّى كلمات الشكر والثناء ولمآرب أخرى دنيوية رخيصة؟
أم أن كل ما تفعله خالص لله، رغبة فى إعلاء دينه وفى مساعدة الناس دون منّ أو أذى؟
سعد بن معاذ ترك سيادته لقومه لله ومن أجل الصالح العام،
فكانت النتيجة أن ظل سيّدًا فى قومه فى حياته، واهتز له عرش الرحمن عند وفاته،
وصدق رسول الله حين قال: «إن للقبر ضغطة، لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ».
أشرف توفيق