لم تخدش الاستقالة المفاجئة لنائب رئيس الجمهورية السابق د. البرادعى، اعتراضاً على فض الاعتصامين،
صلابة هذه الجبهة ووحدتها، ولم تترك أى آثار عميقة على مشاعر المصريين، على العكس
حدث ارتياح عميق فى الشارع المصرى، لأن البرادعى اختار توقيتاً سيئاً أحاط استقالته بشكوك كبيرة،
خاصة أن الأوروبيين استخدموا منطوق الاستقالة كحيثيات تعزز طلبهم انعقاد مجلس الأمن
على نحو عاجل فى جلسة تشاورية تبحث ما سموه بـ«الأزمة المصرية»، كما أن أسباب الاستقالة
لم تقنع أى مصرى بما فى ذلك تلاميذ البرادعى فى حزب الدستور، الذين اعتبروا الاستقالة نكوصاً
عن أداء الواجب وتهرباً من المسئولية وخذلانا لنضال الشعب المصرى، بينما اعتبرتها غالبية المصريين
خنجراً مسموماً طعن من الخلف نضالهم فى وقت بالغ الحرج. وما زاد من ضعف موقف البرادعى
أنه تحدث عن بدائل لاستخدام القوة فى فض الاعتصامين، على حين يعرف الجميع أن جميع الوساطات الدولية
والمحلية فشلت على صخرة عناد الجماعة، التى ظلت حتى اللحظة الأخيرة تطالب بعودة الرئيس المعزول
وعدم تغيير بنود الدستور، الذى تم تفصيله على مقاس الجماعة، وإعادة إدماج الجماعة
فى الحياة السياسية المصرية وكأن شيئا لم يكن، وإطلاق سراح جميع المحتجزين من قياداتهم
على ذمة قضايا خطيرة، دون أى مساءلة قانونية رغم أنهار الدماء التى سالت على أيديهم،
ورغم أن بعض الجرائم التى ارتكبوها تصل إلى حد الخيانة.
كانت الجماعة تأمل لو أن عملية فض الاعتصامين أدت إلى سقوط الآلاف من القتلى والجرحى،
كى تتمكن من استثمار هذه المأساة فى تأجيج الموقف الدولى داخل مجلس الأمن وإلزامه توقيع العقوبات
على مصر، وتطبيق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذى يجيز استخدام القوة،
وعندما لم يتحقق هذا الهدف اختارت الجماعة أن تسلك طريق الإرهاب بصورة علنية وتكشف عن وجهها الحقيقى،
لأن الجماعة على طول تاريخها استخدمت كل صور العنف، ابتداء من الاغتيال السياسى إلى جرائم التفجير،
وكانت المعطف الذى خرجت من تحته كل جماعات العنف والإرهاب فى مصر والشرق الأوسط.
اختارت جماعة الإخوان أن تسلك طريق الإرهاب كى تؤكد للعالم أن مصر لن تشهد أمناً أو استقراراً
ما لم يذعن المصريون لمطالب الجماعة التى كانت تبنى خططها على سقوط عدد ضخم من الضحايا
خلال عملية فض الاعتصامين يبرر تدخل المجتمع الدولى فى الشأن المصرى،
ولأن هذا الهدف لم يتحقق سارعت الجماعة إلى نشر كتائب الخراب والدمار فى كل ربوع الوطن لخلق
مبررات جديدة تساعد على محاولة تدويل ما سموه بـ«الأزمة المصرية»، فى إطار تواطؤ مع الإدارة الأمريكية
التى صدمها نجاح المصريين فى 30 يونيو فى إزاحة حكم جماعة الإخوان والرئيس المعزول،
وإسقاط مشروع الشرق الأوسط الكبير الذى يعيد تقسيم العالم العربى لصالح هيمنة إسرائيل المنفردة
على المنطقة، ويهيئ ظروفاً جديدة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب اقتطاع جزء من أرض سيناء
وإلحاقه بقطاع غزة، الذى يعانى من انفجار سكانى، يرى الأمريكيون والإسرائيليون أن حله الأمثل ينبغى
أن يكون على الجبهة المصرية وعلى حساب أرض المصريين، بدلاً من أن يكون عنصر تهديد لأمن إسرائيل.
ولهذه الأسباب تواجه مصر مفترق طرق صعباً يلزمها واحداً من خيارين؛ إما أن تمتثل لإرهاب
جماعة الإخوان التى تهدد بإحالة مصر إلى سوريا جديدة يسقط فى معاركها مئات الآلاف من القتلى،
كما أعلن قادة الجماعة دون مواربة، لصالح مشروع الشرق الأوسط الكبير الذى يتوافق فى كل أهدافه
ومراميه مع مشروع الجماعة الذى تطلق عليه اسم المشروع الإسلامى، ويقبل بإعادة ترسيم حدود مصر
لتصفية القضية الفلسطينية، وإما أن تقف مصر صامدة على أقدامها تؤكد قدرتها على مقاومة هذا المشروع،
الذى أصبح آيلاً للسقوط بعد غياب سلطة الحكم عن الجماعة. والمضحك فى البلية
ألا يجد المتواطئون فى تنفيذ هذا المشروع (الأمريكيون والأتراك والقطريون) سوى الرئيس المعزول
الذى لم يحقق إنجازاً واحداً ويرفض حكمه أكثر من 80% من الشعب المصرى،
كى يجعلوا من عودته المستحيلة رمزاً لإعادة ترتيب المنطقة تحت ذريعة الشرعية الكاذبة التى أسقطها
خروح عشرات الملايين من المصريين فى تظاهرات 30 يونيو، كما أسقطها خيبات حكم جماعة الإخوان
التى تحولت إلى رمز للكراهية فى عقول وقلوب جميع المصريين بعد عام واحد من حكمها،
وزاد من عمق سقوط الجماعة جرائم العنف التى ارتكبتها فى أعقاب فض الاعتصامين
بهدف كسر الشرطة المصرية وتدمير مقارها، ونشر الفوضى والخراب فى كل أرجاء الوطن الذى تفجر
عنفاً دامياً ومسلحاً داخل الوادى وعلى جبهة سيناء، يتجاهله الأمريكيون والأوروبيون ويعمون
عن أن يروا وقائعه الواضحة كشمس النهار، التى تتجسد فى هذا التحالف البغيض بين تنظيم القاعدة
وجماعة الإخوان بسبب معاييرهم المزدوجة ومواقفهم الانتقائية، ولأنهم لا يريدون لهذا البلد استقلالاً حقيقياً
أو ديمقراطية صحيحة، ويخططون لأن تبقى جماعة الإخوان مهما انحطت أفعالها حجراً ثقيلاً
فى أعناق المصريين يكبل إرادتهم ويقيد خطاهم على طريق الحرية والديمقراطية.
وباليقين فإن المصريين الذين أسقطوا حلف بغداد القديم سوف يسقطون هذا المشروع، الذى يجدد ماضياً
فات أوانه، خاصة أن الأمريكيين يبدون الآن الكثير من التردد والقلق خوفاً من غضبة هائلة متوقعة
للشعب المصرى الذى لم يعد يرى فى واشنطن حليفاً استراتيجياً، ولم يعد يعبأ كثيراً بهذه التهديدات المتكررة
بتعليق المعونات أو وقفها، وأظن أن الأمريكيين رأوا بوادر هذا الغضب الجماهيرى الواسع فى تظاهرات يونيو ويوليو،
وما يزيد من مخاوف الأمريكيين أنهم صنعوا لأنفسهم وهماً تروج له جماعة الإخوان المسلمين فى حملتها المضللة
على الفريق السيسى، التى تحاول تصويره على أنه سوف يكون بمثابة «ناصر جديد»، يطارد نفوذ الغرب
فى المنطقة كما فعل عبدالناصر، ويعيد جماعة الإخوان المسلمين إلى المعتقلات الجماعية، ويفرض على مصر
حكماً عسكرياً جديداً يغلق الطريق أمام مسارها الديمقراطى، الأمر الذى يتطلب من الغرب ضرورة التعامل معه
بقسوة وشدة قبل أن يفوت الأوان! رغم أن هذا الادعاء غير صحيح ويكشف عن سوء قصد سابق،
لأنه إذا كانت هناك سمات مشتركة تجمع بين السيسى وعبدالناصر، فهناك أيضاً اختلافات جوهرية
بين الشخصيتين رغم اشتراكهما فى الاعتزاز بالوطنية والكرامة المصرية، فضلا عن تغير الظروف الدولية
والإقليمية وانتهاء الحرب الباردة وترهل حركة عدم الانحياز، وكلها عوامل تؤكد أن الفريق السيسى
يعرف عصره ويعيشه ويتفهمه على نحو صحيح، ويدرك جيداً محددات هذا العصر وسقوفه،
وربما تستحق المقارنة بين عبدالناصر والسيسى مقالاً آخر، لكن غاية القول من مقال اليوم أن المؤامرة لن تمر،
وأن مجلس الأمن الذى أغلق جلسته التشاورية دون قرار يمكن أن يعاود الكرة
ويسعى إلى عقد اجتماع ثانٍ وثالث لمجلس الأمن، فى محاولة جديدة لفرض العقوبات على مصر،
لكنه سوف يفشل فى تحقيق أهدافه لأسباب عديدة؛ أولها أن جماعة الإخوان المسلمين تضبط الآن متلبسة
بأعمال إرهاب مخيفة لا يستطيع أحد تجاهلها أو إنكارها، ولأن السعودية ودول الخليج اتخذت موقفاً واضحاً
سوف يكون له تأثيره البالغ على عدد من الدول العربية والغربية، يرفض التدخل فى شئون مصر
ويؤكد حقها فى محاربة الإرهاب، ولأسباب أخرى كثيرة بينها عزم روسيا والصين على استخدام حق الفيتو.
لكن مربط الفرس النهائى لا يزال فى يد هذا الشعب العظيم الذى يصمم على حماية إرادته الحرة
وحقه فى ديمقراطية صحيحة تستوعب كل قواه المدنية، وعزمه على اجتثاث جذور الإرهاب،
ورفضه القاطع لتدخل الآخرين فى شئونه، لأنه شعب عريق يعرف التزاماته الوطنية والقومية والدولية،
لم يفتأت أبدا على حقوق الآخرين، ولم يهدد يوماً ما السلم الأهلى، ولم يخرق مرة واحدة أحكام القانون الدولى،
وظل طوال تاريخه على التزامه الأخلاقى بكل الأعراف والمواثيق الدولية.