09.01.2013
ليست المادة 219 من الدستور المعطل وحدها فى حاجة إلى حذف، وإنما توجد نصوص أخرى متعلقة بها
وردت فى الديباجة، والمادة الرابعة تحتاج إلى حذف وتصويب، كما سنوضحه بإذن الله،
حتى نقتلع تلك المادة المسيئة للدين والمشككة فى ذمة الإنسان المصرى المؤتمن على دينه من دون وصاية كسائر البشر.
وقد حاول بعض واضعيها فى سنة حكم الإخوان الكهنوتية باسم الإسلام السياسى أن يعودوا من جديد للترويج لها
بنفس أدوات التجارة الدينية التى ثار عليها المصريون فى الثلاثين من يونيو 2013م،
مما يستوجب تقسيم الجواب عن سؤالنا فى رفض تلك المادة إلى قسمين:
(1) القسم الأول: كشف الشغب والتجارة بالدين باسم الهوية الإسلامية.
(2) القسم الثانى: بيان أوجه رد المادة 219 من الظلم والغموض والتناقض والتلبيس والعقم.
القسم الأول: الشغب والتجارة بالدين باسم الهوية الإسلامية
إن مصطلح الهوية الإسلامية لا يعرفه الفقهاء المسلمون الذين لا يشقون صفوف الناس ولا يقطعون أرحامهم
بمثل تلك المصطلحات التى تفرق بين بنى الدين الواحد وتبث الكراهية والعداوة بينهم. وإنما اعتنى الفقهاء
بمصطلحات القرآن والسنة فاكتفوا باسم الدين الذى اختاره الإنسان لنفسه يلقى به ربه،
كما قال سبحانه: «لكم دينكم ولى دين» (الكافرون:6).
أما الأشقياء فقد شغبوا باستدعائهم مصطلح «الهوية» من الفلاسفة الأبرياء لتوظيفه فى التجارة بالدين الخاسرة،
فقالوا عن بعض المسلمين: إن هويتهم علمانية. وقالوا عن بعض آخر: إن هويتهم ليبرالية.
وقالوا عن بعض ثالث: إن هويتهم إسلامية. والهدف من ذلك هو احتكار الحديث عن الإسلام،
وكأنهم وكلاء الله فيه، والناس من بعدهم تبع، مع أن توحيد الله يستلزم أن يستقل كل إنسان فى علاقة خاصة مع الله
دون وسيط أو حتى مساعد، ولا يملك أحد على أحد سوى حق النصيحة والعلم، فالحساب يوم القيامة
فرداً وليس جماعة، وعلى قدر ما ملك الفرد وليس على قدر ما ملكت الجماعة.
قال تعالى: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (البقرة:268)،
وقال سبحانه: «وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً» (مريم:95).
ولعل فضولية المتاجرين بالدين وسرقتهم لعقول البسطاء بزينة الكلام هو ما يدعونا إلى كشف حقيقة الهوية
التى يحاكمونهم بها لاستعبادهم حتى ينتفض الناس غيرة على عقولهم بمواجهة هؤلاء المتاجرين بالدين
وأدخلوا فيه ما ليس منه من أجل الفتنة وبقاء عروشهم.
هل يعلم تجار الدين بأن الهوية -بفتح الهاء- اسم للبئر البعيدة القعر، أو اسم للمكان الذى يهوى من عليه،
أى يسقط إذا وقف عليه، ومنه الهوى، أى نزوع النفس لسفل شهواتها فى مقابلة معتلى الروح.
ولهذا يقال عن الحفرة العميقة: الهاوية،
ومنه قوله تعالى: «وأما من خفت موازينه فأمه هاوية» (القارعة: 8 و9).
قال ابن كثير: قيل معناه: فهو ساقط هاوٍ بأُم رأسه فى نار جهنم، وعبر عنه بأمه يعنى دماغه،
روى نحو هذا عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقيل معناه: فأمه التى يرجع إليها ويصير فى المعاد إليها هاوية،
وهى اسم من أسماء النار. قال ابن جرير: وإنما قيل للهاوية أُمه لأنه لا مأوى له غيرها.
أما الهُوية -بضم الهاء- فهى مصدر صناعى من كلمة «هو»، مثل الأنانية من كلمة «أنا»،
ومثل الإنسانية من كلمة «إنسان». ولا يعرف الفقهاء المسلمون مصطلح الهُوية هذا وإنما تعاملوا معه
كلفظ عربى مجرد، وكان الذى اصطفاه مصطلحاً هم الفلاسفة، ويقصدون به كما يقول «الجرجانى»:
«الوجود المحصن الصريح المستوعب لكل كمال وجودى وشعورى». وجاء فى الموسوعة الفلسفية العربية
تعريف الهُوية -بضم الهاء- بأنها: «ما به الشىء هو هو بوصفه وجوداً منفرداً متميزاً عن غيره».
وقد قام مجمع اللغة العربية بتبسيط هذا التعريف، فجاء فى المعجم الوسيط: «الهُوية فى الفلسفة:
حقيقة الشىء أو الشخص التى تميزه عن غيره». وحاول بعض اللغويين المعاصرين،
وهو الدكتور عبدالهادى بوطالب فى كتابه «معجم تصحيح لغة الإعلام العربى» أن يشرح هذا التعريف
فقال: «الأصل فى الهُوية -بضم الهاء- أنها إجابة لسؤال من هو فلان؟ وما يجىء فى الجواب هو هُوية الشخص:
اسمه وجنسيته ووطنه وخصائصه. نقول إذن: هُوية شخص، وهُوية شعب، وورقة الهُوية».
كيف تتحقق الهُوية بالشعب أم بالدستور والقوانين؟
إذا سلمنا بمصطلح الهُوية المصرية -بضم الهاء- بمعنى خصائص الشعب المصرى، فمن الذى يقررها..
الدستور والقوانين أم الشعب نفسه باختياره الحر؟ إن الدستور فى الحقيقة يقرر واقعاً ولا ينشئه،
فهو يعبر عن حال شعبه لغة وديناً. كما أن القانون يعبر عن اختيار الشعب للوجه الذى يحتكمون إليه
أمام القضاء عند النزاع. إذن الشعب هو السيد المخدوم بالدستور والقانون، وليس الدستور هو السيد الوصى
على الشعب، وكذلك القانون. إلا أن الدستور والقانون يتحولان إلى سيد فى مواجهة المعتدين على حق الآخر
باعتبارهما من جنس العقود التى قال الله عنها: «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود» (المائدة: 1)،
وقوله تعالى: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً» (الإسراء: 34)،
وما أخرجه «البخارى» تعليقاً أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون عند شروطهم».
أما الممتنع عن ممارسة الحقوق التى كفلها الدستور والقانون بما لا يضر حق الآخرين فلا تثريب عليه،
ومن هنا نقول إن الممارسة الشعبية هى التى تحدد هوية الدولة وليس الدستور أو القانون،
ونكتفى للدلالة على ذلك بثلاثة أمثلة إيجابية وأخرى سلبية.
أولاً: الأمثلة الإيجابية فى السيادة الشعبية للهوية الدينية
المثال الأول: أن دساتير مصر اعتباراً من سنة 1923م حتى 2012م الموصوف بأنه أعظم دستور
عرفته البشرية -على حد تعبير الدكتور حسين حامد حسان الفقيه الإخوانى- تنص على حرية العقيدة
(مادة: 43) وأنه لا يجوز قيام حزب سياسى على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل
أو الدين (مادة: 6). وهذا يفتح الباب للمسلمين المصريين أن يرتدوا عن دينهم، أو أن يتخلوا عنه
فى الممارسة السياسية. وهذا ما لم نسمع به؛ لأن إرادة الشعب هى السيد وهى التى تحدد الهوية.
المثال الثانى: أن القانون المصرى رقم 71 لسنة 1946م بشأن الوصية يجيز الوصية للوارث ولا يمنعها؛
عملاً بالفقه الإمامى (الجعفرى). ومع ذلك فإن أكثر الشعب المصرى من المسلمين لا يقدم على تلك الوصية
عملاً بفقه المذاهب الأربعة المشهورة، واستغنى عنها بالعطية فى الحياة. مما يؤكد سيادة الشعب
وأنه الذى يحدد هويته، وليس الدستور أو القانون كما يزعم المتاجرون بالدين.
المثال الثالث: أن القانون المصرى رقم 78 بشأن لائحة ترتيب المحاكم الشرعية يجيز للفتاة البالغة الرشيدة
أن تزوج نفسها للكفء ولا يمنعها من ذلك؛ عملاً بمذهب أبى حنيفة فى الجملة.
ومع ذلك فإن أكثر الفتيات المسلمات المصريات لا يقدمن على الزواج إلا عن طريق أوليائهن من الرجال؛
عملاً بمذهب جمهور الفقهاء. مما يقطع بأن الهوية الدينية ترجع إلى الشعب وليس إلى القانون أو الدستور.
ثانياً: الأمثلة السلبية فى السيادة الشعبية للهوية الدينية
المثال الأول: تنص الدساتير المصرية اعتباراً من سنة 1923م إلى دستور 2012م الصادر
فى حكم «الإخوان المسلمين» والموقوف حالياً على أن «السيادة للشعب يمارسها ويحميها»
(مادة 5 لسنة 2012م). ومع هذا فإن الممارسة الفعلية فى حياة المصريين لا تزال تجعل السيادة للفتاوى الدينية
الصادرة من الأئمة الأكثر شعبية وشهرة والتى تسوق الناس إلى رغبة المشايخ وليس إلى رغبة الناخب.
المثال الثانى: ينص القانون المصرى رقم 77 لسنة 1943م بشأن المواريث بحق المسلمات فى الإرث
من تركة ميتهن عقاراً أو منقولاً. ومع ذلك فلا تزال كثير من النساء محرومات من الإرث
فى الأراضى الزراعية والعقارات، ولا يستطعن الاستقواء بالقضاء لموانع عصبية، فلم ينفعهن القانون؛
لعجز المشايخ عن إقناع ذويهن بهذا الحق.
المثال الثالث: ينص قانون العقوبات المصرى وتعديلاته رقم 147 لسنة 1998م على تجريم ومعاقبة
القتل العمد بكل صوره. ومع ذلك فإن حالات الثأر كثيرة، فضلاً عن جماعة البحث عن السلطة بالقوة
والتى ترتكب عمليات إرهابية بشعة تشتمل على القتل غيلة والتمثيل بالجثث دون إنكار من مؤيد يهم المسلمين،
فهل الدستور والقانون هما المحددان للهوية أم إن الشعب هو صاحب الهوية؟
المتاجرة بالهوية الإسلامية
إذا ثبت بالأمثلة السابقة أن الشعب هو السيد صاحب القرار فى هويته، وأن القوانين والدساتير
لا تغير الهوية وإنما تحمى الإنسان من عدوان أخيه، فلماذا يحاول البعض التزيد فى الدستور بمواد يستقوى بها
على الآخرين باسم الهوية الإسلامية مثل المادة 219 من الدستور المعطل، ويزعم أن حذفها سيجعل المصريين
يخرجون عن دينهم ويسبونه والأنبياء والملائكة! إن من يصدقهم فى هذا الهراء سيأتى عليه اليوم
أن يتهم القرآن الكريم بذلك، فهو القائل: «لا إكراه فى الدين» (البقرة: 256)
وهو القائل: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف: 29)،
وهو القائل: «ما على الرسول إلا البلاغ» (المائدة: 99)،
وهو القائل: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم» (الأنعام: 108).
فهل هذه الآيات دافعة للناس على المعصية والشرك أم إنها تمكن الإنسان من حقه الشرعى الدنيوى
فى الحرية الشخصية دون الإضرار بالآخرين. إن الذين يتزيدون بالمادة 219 من الدستور المعطل
التى وضعوها بأيديهم يفتعلون معركة وهمية فى رؤوسهم، ولا يدل الظاهر إلا على سعيهم لكسب أصوات
البسطاء بالعاطفة الدينية، وهو ما سميناه التجارة الدينية الرخيصة.
حماية الدين من المتاجرة به
تنص المادة السادسة من دستور 2012م المعطل والموصوف بالدستور الإسلامى على أنه
«لا يجوز قيام حزب سياسى على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين»،
ومع ذلك فلا تزال هناك بعض الأحزاب المشهورة المشاركة فى وضع هذا الدستور تجهر بممارساتها السياسية
على أساس دينى، فهل تضع ما لا تعتقد فيكون نفاقاً، أم إنها تحتمى بالدين كسباً للأصوات وتجارة به،
علماً بأن كل ما يكتب من غير نص القرآن والسنة منسوباً للدين افتراء عليه، فهو فى الحقيقة فقه بشرى
قابل للتغيير والتعديل يجوز العمل به كما يجوز تركه إلى غيره من فقه آخر أكثر إقناعاً، فقد أخرج «مسلم»
عن «بريدة» أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمرائه: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك
أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك -أنت-
فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا». وليحذر تجار الدين أن يصفوا أقوالهم الفقهية به؛
لقوله تعالى: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً
فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون» (البقرة: 79).
وإذا كان دستور 2012م المعطل قد نص فى ديباجته على أن «هذا هو دستورنا وثيقة الخامس والعشرين من يناير..
بعد أن رفضنا كل صور الظلم والقهر والطغيان..».
فإننى أرى أن يضاف إلى ذلك عبارة: «وقد قامت ثورة الثلاثين من يونيو 2013م لرفض كل صور المتاجرة بالدين».
حتى نمكن الناس من توحيد الله بحق،
ويكون كما قال سبحانه: «ويكون الدين لله» (البقرة: 193)،
فليتدين كل إنسان على قدر علمه بالوجه الذى يعتقده، وليرفع كل إنسان يده عن عقيدة صاحبه
كما قال سبحانه: «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون» (المائدة: 105).
ولا يكون الإلزام بين الناس إلا فى الحقوق الآدمية؛ لما أخرجه «الشيخان» عن «أبى هريرة»
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل جاءه يطلب حقه، وأغلظ فى الطلب:
«إن لصاحب الحق مقالاً».
أما الأمور الدينية فلا تقبل بطبيعتها إلا الموعظة والإقناع، ولا تحتمل الإلزام،
فمن صلى أو صام بغير اقتناع ونية شخصية فلا صلاة له ولا صوم.
القسم الثانى: بيان أوجه رد المادة 219 من الظلم والغموض والتناقض والتلبيس والعقم
تنص المادة 219 من دستور 2012م المعطل على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية،
وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة».
وقد جاءت هذه المادة فى الفصل الثانى من الباب الخامس، كالمفسرة للمادة الثانية فى الفصل الأول من الباب الأول
والتى تنص على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية،
ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع».
والمتأمل فى المادة التفسيرية رقم 219 التى أقام لها البعض الدنيا ولم يقعدها يراها موصوفة
بخمسة أوصاف قبيحة فى المنهج العلمى السائد، وهى: الظلم والغموض والتناقض والتلبيس والعقم.
مما يستوجب حذفها واعتبارها كأن لم تكن، بل والاعتذار لأكثر أهل العلم أن كانت هذه المادة مثبتة فى دستور مصرى
يوماً ما. ونوضح بإيجاز تلك الأوصاف المشينة فيما يلى:
أولاً: ظلم المادة 219 من الدستور المعطل
يظهر ظلم المادة 219 فى الدستور المعطل من وجهين:
الوجه الأول: أن المادة 219 جاءت مفسرة لإحدى فقرات المادة الثانية وأغفلت تفسير باقى فقراتها.
حيث اشتملت المادة الثانية على ثلاث فقرات هى: (1) الإسلام دين الدولة.
(2) اللغة العربية لغتها الرسمية. (3) مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.
وكان من العدل أن يتم خدمة تلك الفقرات الثلاث بالتفسير دون اختصاص الفقرة الثالثة به؛ لعموم ما أخرجه «البخارى»
عن النعمان بن بشير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم».
وإذا قيل بأن الفقرة الثالثة تحتاج إلى التفسير دون الأوليين. قلنا: إن هذا عند من كان وراءها لحاجة فى نفوسهم.
وإلا فإن الأولى بالحاجة إلى تفسير هو ما ورد فى الفقرتين الأوليين؛ إذ لا يمكن أن يكون المقصود بأن الإسلام
دين الدولة هو أن الدولة ستدخل الجنة لإسلامها، أو أن الصلاة والصيام واجبان عليها، أو أن الدولة
ستلزم المواطنين بالإسلام ولن تتركهم أحراراً فى العقيدة. فما هو المقصود إذن؟ هل يعنى ذلك أن الدولة
تعطى رواتب الدعاة الإسلاميين ولا تعطى مرتبات لمدرسى التربية الدينية غير الإسلامية أو القساوسة.
أو أن المقصود هو أن الدولة تمنح عطلات يوم الجمعة وأعياد المسلمين دون غيرهم، وترفع أذان الصلوات الخمس
فى إعلامها الرسمى دون مواعيد صلاة غيرهم. أليس هذا
وغيره فى حاجة إلى تفسير حتى يعلم الجميع حقوقه وواجباته.
كما أن القول بأن اللغة العربية لغة الدولة الرسمية يحتاج إلى تفسير فى سريان ذلك على تعريب العلوم
كالطب والهندسة، وتعريب التجارة بمنع تراخيص الشركات والمحلات التى تتخذ لغة أجنبية،
وتعريب السياسة بمنع مخاطبة الغير إلا باللغة العربية. أم إن المقصود هو لغة التعليم الأساسى
والإعلام الرسمى، وغير ذلك مما يحتاج إلى تفسير.
ومع حاجة الفقرتين الأوليين من المادة الثانية إلى تفسير عند كثير من الناس إلا أن الملائم فى الدساتير
والقوانين تجنبها الحشو والتزيد، ومنه المواد المفسرة؛ لأن التفسير يحتاج إلى تفسير، وهكذا إلى ما لا نهاية،
وهو ما يعرف فى علم المنطق بالدور والتسلسل، وهو باطل. مما يستوجب حذفه.
الوجه الثانى: أنه إذا كانت المحكمة الدستورية العليا منوط بها تفسير ما غمض فى الدستور،
وهى مؤهلة بشيوخ القضاة وحكمائهم وفقهائهم، فلماذا تفتئت المادة 219 عليهم، كالمتهمة لهم بالعجز
والقصور عن تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية، فهذا من الظلم المركب الواجب رفعه.
ثانياً: غموض المادة 219 من الدستور المعطل
يوجب المنطق أن يكون التفسير والشرح أوضح وأبين من المطلوب تفسيره. والعجيب هنا العكس،
فمبادئ الشريعة الإسلامية الوارد ذكرها فى المادة الثانية تكاد أن تكون معلومة من الدين بالضرورة،
يعرفها العامة. فلا أحد يجهل مبادئ العدل والمساواة والحرية وحفظ الضرورات الخمس من الدين والنفس
والعقل والعرض والمال. فإذا لزم الأمر بمزيد من التعريف فوجب أن يكون بما هو أيسر وأظهر اتباعاً
لما أخرجه «أحمد» بإسناد حسن عن وابصة بن معبد الذى سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن البر وعن الإثم؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «يا وابصة استفتِ قلبك. البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس.
والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك».
هكذا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون الإجابة واضحة وحاسمة، فضلاً عن حسن الظن بالناس
وتحكيمهم لضمائرهم دون اتهام أو تعقيد بمصطلحات وشروط فقهية خلافية غامضة، كما ورد فى المادة 219
التى لا يعرفها أحد من العامة، والمفروض أن الدستور لهم ولا يكون نافذاً إلا بموافقتهم، ولا يجوز شرعاً
المصادقة على المجهول أو الغامض الذى يمكن التعرف عليه بالمادة الثانية الواضحة،
مما يجعل حذف المادة 219 واجباً فى قياس الفقه الإسلامى.
ثالثاً: تناقض المادة 219 من الدستور المعطل
تزعم المادة 219 من الدستور المعطل على أن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل ثلاثة أشياء إجمالاً:
(1) الأدلة الكلية للشريعة الإسلامية.
(2) القواعد الأصولية والفقهية للشريعة الإسلامية.
(3) المصادر المعتبرة للشريعة الإسلامية فى مذاهب أهل السنة والجماعة.
وأهل التخصص من أساتذة الفقه والفقه المقارن وأصول الفقه يدركون جيداً مدى التناقض الواقع
فى هذه المادة من وجوه كثيرة، منها:
(1) أن المصادر المعتبرة هى نفسها الأدلة والقواعد.
(2) أن الفقهاء لا يعبرون بمصطلح أهل السنة والجماعة، وإنما هو تعبير علماء الكلام (العقيدة)
فى مواجهة الفكر الإلحادى أو الشركى. أما الفقهاء فيعبرون بالمذاهب السنية فى مقابلة المذاهب الشيعية،
ولا يعرفون لفظ الجماعة. ومع ذلك فإن المذاهب السنية متقاربة ومتداخلة مع المذاهب الشيعية
فى أكثر من تسعين بالمائة فى مسائل الفقه من العبادات والمعاملات.
(3) أن أكثر الأدلة الكلية محل خلاف
فى الاعتبار عند فقهاء السنة فالنظام وبعض علماء الأصول أنكروا وقوع الإجماع، وأثبتوا أن المسائل الموصوفة
بالإجماعية لها أدلة فى الكتاب والسنة خلافاً للجمهور. وذهب «الشافعى» فى «الجديد»
ورواية عن أحمد وأكثر الأشاعرة إلى أن قول الصحابى ليس حجة ويقدم عليه القياس خلافاً لغيرهم.
وذهب أكثر الشافعية والظاهرية وبعض الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا،
خلافاً للجمهور. وذهب الظاهرية إلى عدم حجية القياس؛ خلافاً لغيرهم. وذهب الشافعية فى «الجديد»
والظاهرية إلى إنكار دليل الاستحسان؛ خلافاً لغيرهم فى الجملة. وذهب الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة
إلى إنكار دليل المصالح المرسلة خلافاً للجمهور. وذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية إلى إنكار دليل الاستصحاب
خلافاً للجمهور فى الجملة. وذهب الحنفية والشافعية إلى إنكار دليل سد الذرائع، خلافاً للمالكية والحنابلة فى الجملة.
(4) أن دليل الكتاب والسنة وإن كان محل إجماع فى الجملة إلا أن دلالته ظنية فى المسائل العملية بالاتفاق،
فلا يوجد نص إلا وله أكثر من دلالة، ولا حجية لإحدى تلك الدلالات إلا عند الفقيه الذى وقف عندها.
ويجوز لهذا الفقيه أن ينتقل من دلالة إلى أخرى كلما وجد لذلك مسوغاً يطمئن إليه قلبه.
(5) إن كثيراً من القواعد الأصولية والفقهية محل خلاف عند فقهاء السنة، ومع ذلك فقد أجمعوا على
أن قاعدة القواعد هى أنه: «لا اطراد فى قاعدة» بمعنى أن كل قاعدة لها استثناء يقدره
كل فقيه بحسب سعة اطلاعه أو تقديره فى موازنة الأمور.
من كل ما سبق يتضح أن المادة 219 من الدستور المعطل جاءت بمصطلحات يضرب بعضها بعضاً،
ونقلت الخلاف الفقهى والأصولى الذى يعالجه الأساتذة مع طلابهم فى محاريب العلم إلى مؤسسة المجلس التشريعى
ليغرق أعضاؤه فى متاهات العلم والفقه وينشغلوا به عن واجبهم المنوط بهم، فكان من الواجب حذف
تلك المادة المعطلة، والاكتفاء بمبادئ الشريعة الإسلامية المعلومة من الدين بالضرورة فى المادة الثانية.