09.02.2013
د . رشا عبد الله
بداية أحب أن أوضح أنني لا أكتب هذا المقال دفاعاً عن قناة الجزيرة، والتي دخلتُ شخصياً في سجالات
مع بعض العاملين بها سواء على التليفون أو على شبكات التواصل الاجتماعية، حيث أن القناة قد تخلت عن
أي معايير للمهنية الصحفية المتعارف عليها، وارتكبت العديد من الجرائم الأخلاقية الصحفية التي تتنافى مع
أي ميثاق للشرف الصحفي، وارتكبت انتهاكات عديدة تصل إلى حد التحريض والفتنة،
بل إنني دعوت مراراً على شبكات التواصل الزملاء العاملين بالقناة لتقديم استقالاتهم
اعتراضا على المستوى المتدني للقناة، وامتنعت شخصيا عن الاستجابة لأية دعوات للقاءات صحفية
على شبكة قنوات الجزيرة وأوضحت لهم أن ذلك يأتي رداً على التغطية المتدنية وشديدة الاستقطاب للأحداث.
ولكن علينا أن نسأل عدة أسئلة ونناقش الموضوع من عدة جوانب،
وأن نوحد القياس والمعايير على كل القنوات الاعلامية...
أولاً من الناحية التقنية يكاد يكون من المستحيل منع بث قناة الجزيرة مباشر مصر بدون "تعاون" قناة الجزيرة،
فبحسب تصريحات الأستاذ ثروت مكى، رئيس شركة الأقمار الصناعية «نايل سات»، فإن القناة تبث من قطر،
فهي فقط تحصل على المادة الإعلامية من مصر، ثم ترسلها إلى الدوحة التى تبثها عبر الأقمار الصناعية.
وعلى ذلك فغاية ما تستطيع الحكومة المصرية عمله هو اغلاق مكتب القناة في مصر ومنعها من استخدام أجهزة بث
أو تصوير عالية الحرفية، ولكن كما نعرف جميعاً فإن نقل الصورة الحية يمكن أن يتم الآن بأقل الامكانات،
بل يمكن أن يتم بجهاز كمبيوتر محمول أو "تابلت" أو حتى بتليفون محمول.
وبعيداً عن المشاعر المتأججة المعادية للإخوان ولكل من يتصدى للدفاع عنهم أو نقل وجهة نظرهم
(وهي مشاعر مفهومة تماماً ومبررة في ظل الظروف الراهنة)، لماذا يريد البعض غلق قناة الجزيرة؟
يقول البعض أن قناة الجزيرة تهدد أمن مصر القومي، وهو بالطبع اتهام خطير، ولكن ما هو تعريف الأمن القومي؟
وهل أمن مصر القومي بهذه الهشاشة حيث تستطيع قناة تليفزيونية تهديده، حتى لو كانت هذه القناة بمثابة
وزارة الاعلام القطرية؟ وما هي المعلومات التي يشكل نشرها أو بثها خطراً على الأمن القومي؟
هناك وثيقة دولية هامة قد تساعدنا في الاجابة على هذا السؤال هي وثيقة مبادئ تشوان لتنظيم العلاقة
بين الأمن القومي وحرية المعلومات، والتي اشترك في صياغتها اثنان وعشرون مؤسسة وأكثر من خمسمائة
خبير من سبعين دولة حول العالم منهم مصر بالتعاون مع مؤسسات عدة منها الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية.
تقول الوثيقة أن المعلومات التي قد تضر بالأمن القومي تتضمن معلومات عن تسليح الدولة،
وطرق وخطط الدفاع بما فيها أنظمة الاتصالات، والمعلومات التي تتناول تدابير محددة لحماية أراضي الدولة
أو البنية التحتية أو المؤسسات الوطنية الهامة، أو المعلومات المخابراتية وما إلى ذلك.
ما تبثه قناة الجزيرة من معلومات مغلوطة أو كاذبة أو أحادية المنظور لا علاقة له بتلك الموضوعات،
وانما هي ترتكب جرما (مهنياً) لا يقل خطورة له علاقة بالتحريض واثارة الفتنة
وما إلى ذلك وهي اتهامات خطيرة ولكن لا علاقة لها بالأمن القومي (وسأعود لذلك لاحقاً في المقال).
وفي الحقيقة أن التصريحات الحكومية لم ترتكن إلى الأمن القومي في اصدار قرار اغلاق القناة،
حيث قالت أنه يجب غلق القناة لأنها "تعمل بلا سند قانوني أو معايير مهنية سليمة، وغير مصرح لها بالعمل في مصر"،
والسؤال هو لماذا تركت الحكومة المصرية قناة تليفزيونية تعمل بدون تراخيص وبلا سند قانوني
لمدة تزيد على العامين والنصف وتريد غلقها الآن؟
يذكرني هذا بقضية منظمات المجتمع المدني الشهيرة التي داهمت فيها الحكومة منظمات كانت تعمل لسنوات
تحت سمع وبصر الحكومة وبالتعاون معها أحيانا، ثم غضبت عليها الحكومة في يوم وليلة فداهمت مقراتها
وقبضت على العاملين بها في قضية سياسية من الطراز الأول، ثم خرج معظم هؤلاء المتهمون بقدرة قادر
من البلد في يوم وليلة أيضاً على متن طائرة حربية أمريكية في حركة سياسية من الطراز الأول.
ثم تقول التصريحات الحكومية أن قرار الغلق يجب أن ينفذ لأن القناة تعمل بدون معايير مهنية سليمة،
ومع موافقتي الشخصية على أن القناة فاقدة للمعايير المهنية إلا أن هذا لا يعد سبباً قانونياً لغلقها،
وعليه فالقرار اداري وليس قضائياً. كما أنه في الواقع أن قناة الجزيرة ليست القناة الوحيدة المفتقدة لقواعد المهنية حالياً،
فالساحة الاعلامية في عمومها تعج بالانتهاكات المهنية، وان كانت قناة الجزيرة هي الوحيدة
التي تتخذ صف الإخوان. ولعلنا نتذكر منذ شهور ليست بالكثيرة حين صدر قرار اداري (كنتُ ضده أيضاً)
باغلاق قناة الفراعين في أعقاب ما سمي بالتحريض ضد مرسي واهانة الجيش، وهلل الكثيرون للقرار في حينها،
ولكن حين تغيرت الظروف السياسية عاد توفيق عكاشة إلى الشاشة حيث يعده البعض الآن بطلاً قومياً
بالرغم من أن المعايير المهنية التي تعمل بها القناة لم تتغير البتة.
نأتي إلى الاتهامات التي بها قدر من الصحة وهي اتهامات التحريض واثارة الفتنة. من الناحية الحقوقية القانونية
أنا شخصياً ضد غلق القنوات الاعلامية حتى اذا ارتكبت تلك الانتهاكات، فمحاربة الكلمة يأتي بالكلمة
وليس بتكميم الأفواه. ولكن اذا افترضنا – من باب المناقشة وطرح الأفكار --
ان تلك الانتهاكات تستدعي غلق القناة، فيجب حينئذ تطبيق تلك المعايير على كل القنوات التليفزيونية
وليس فقط على القنوات التي لا نتفق معها سياسياً. فإذا كانت قناة الجزيرة حرضت على الجيش
أو على فصائل من المصريين، فلا شك أن جميعنا يتذكر أن الاعلام الحكومي المصري قد حث "المواطنين الشرفاء"
في موقعة ماسبيرو يوم 9 أكتوبر 2011 على النزول للدفاع عن الجيش ضد الأقباط!!
لم نر قناة حكومية قد أغلقت أو طالب أحد باغلاقها، بل لم نر أي جزاءات من أي نوع قد وقعت على المذيعة
المخضرمة أو على رئيس القناة أو على رئيس قطاع الأخبار أو على رئيس اتحاد الاذاعة والتليفزيون.
تُتهم قناة الجزيرة الآن باذاعة أرقام مغلوطة عن عدد الشهداء أو شهادات كاذبة من ضيوفها أو كلاماً محرضاً
وعليه فيجب اغلاقها، فلم لم تغلق القناة الفضائية المصرية حين طلعت علينا بالمكالمة التاريخية ل
ـ "تامر من غمرة"، ولم لم تغلق حين اتهم خالد سعيد بأنه تاجر مخدرات،
ولم لم تغلق القنوات التي أذاعت شهادات فنانين عن "علاقات جنسية كاملة" في التحرير،
وحين خرجت علينا فتاة بفيلم هندي عن النشطاء الذين تدربوا في صربيا على يد ايران واسرائيل (الاثنين معا!!)
ثم اتضح انها صحفية فاشلة تعمل مع المذيع وأن الموضوع كله مختلق؟!!
مرة ثانية، أنا ضد غلق كل القنوات الاعلامية، وعليه أنا لا أنادي بغلق القنوات المذكورة
ولكن أنادي بمعاقبة الأشخاص والمسئولين عن تلك القنوات ممن ارتكبوا تلك الانتهاكات. ومرة ثانية،
أنا لا أدافع عن قناة الجزيرة، والتي ارتكبت من الانتهاكات الاعلامية ما مسح تاريخها الذي كان يوماً مضيئاً،
ولكني ضد غلق القنوات وخاصة بقرار اداري، وضد الكيل بمكيالين. قرار الغلق قرار سياسي وليس قراراً اعلامياً،
يصدر اليوم على قناة الجزيرة، وقد يصدر غداً على أي قناة تقدم رأياً معارضاً سواء ارتكبت انتهاكات أم لم ترتكب.
فلنصلح اعلامنا وحينئذ لن تجد قناة الجزيرة من يتابعها، وستكون المقاطعة الشعبية والتهميش
– لا الغلق الاداري -- هما الحل.