محمد عثمان الخشت
يرفض القرآن بحسم «غريزة القطيع» التى تجعل الجموع ينساقون وراء قادتهم بلا تفكير أو تروٍ أو مراجعة!
كما يستنكر القرآن بوضوح ما ينشأ عن هذه الغريزة، مثل منهج السمع والطاعة،
ويسخر من التسليم بأقوال القادة أو الآباء دون الاستناد إلى براهين عقلية،
فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(البقرة: 170).
فهذا أمر مستهجن وضد مبادئ العقل المنطقى وضد البداهة؛ لأن المعتقدات ينبغى أن تؤسس على
براهين وليس على سلطة الرجال، ولذا قال الإمام على: «إن الحق لا يعرف بالرجال!».
ومن ثم انتبذ القرآن الطريقة المتعصبة فى التفكير التى تقوم على اليقين الساذج
الذى نلتقى به عند المتطرف، فالمتطرف متعصب لآرائه إلى أبعد الحدود،
لا يقبل أن يناقش آراءه ومعتقداته أحد، يعتقد فى ذكائه المفرط وقدرته الخارقة على معالجة الأمور،
كما يعتقد فى سلطة الآباء أو العلماء أو غيرهم من أصحاب النفوذ الدينى أو الفكرى.
وهذه هى طريقة الذين يقولون «إن الحق يعرف بالرجال!» الذين حذر منهم الإمام على،
أى الذين يعتبرون القول حقاً لمجرد أن فلاناً أو علاناً قاله،
وهؤلاء هم الذين يسيرون على منهج السمع والطاعة،
لا برهان لهم ولا رأى؛ فالذى يملك الحقيقة هم أسيادهم فقط!
ولذلك هم منفصلون تماماً عن الواقع كما يقول علماء النفس.
والأصل الأول لكل تعصب هو غريزة القطيع التى ليس لها بوصلة سوى اليقين المطلق الذى تتسم به
بعض معتقداتهم اعتماداً على التسليم للقادة دون الاستناد إلى براهين كافية،
ودون تمحيص نقدى للأسس التى تقوم عليها تلك المعتقدات.
ومثلما يستخف القرآن بيقين المتعصبين من ذوى العقول المغلقة، يستخف أيضاً بيقين الملحدين
والمنكرين للعقائد الدينية؛ لأن موقفهم يستند إلى يقين جامد وثقة كاملة فى صحة موقفهم وتصوراتهم
وفى جزمهم بعدم وجود الله! يا لها من سذاجة! فكيف تنكر وجود كائن ما فى حجرة مظلمة
وأنت لم تحط علماً بها! ولله المثل الأعلى.. فالكون لا يزال حجرة مظلمة أمام العلم الإنسانى،
ولم يحط الإنسان علماً به حتى يتمكن من الإنكار!
ويؤكد القرآن إمكانية المعرفة اليقينية ووجود معايير لماهية الحقيقة، لكن من جهة أخرى يرفض اليقين المطلق
الذى يزعم امتلاكه البعض دون براهين محكمة؛ حيث ينتقد الأساليب الزائفة غير البرهانية،
ويدعو للمعرفة التجريبية المبنية على النظر فى الكون والآفاق والنفس، وغير ذلك من الأساليب
التى توصل للمعرفة المضبوطة أو العلم الدقيق بالعالم الخارجى أو النص المكتوب.
والعلم اليقينى يحصل عليه الإنسان بوسائل متعددة: الواقع، أو التجريب، أو الاستدلال العلمى، أو القراءة الفاحصة،
قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101)..
(الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 4 -5)..
بل هناك أنماط أخرى غير مألوفة من العلم، منها علم الكتاب..
(قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ
قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 40).
ودعا القرآن الكريم إلى استخدام البرهان للوصول للمعرفة اليقينية:
(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (البقرة: 111)؛
فحجية العقل المنطقى سند للتمييز بين اليقين والظن فى مسائل الإيمان.
ولذا أبطل القرآن ادعاء بعض الفلسفات والأديان التى تقول بأن الإيمان ميدان بعيد عن العقل..
قال تعالى: (وما يعقلها إلا العالمون)(سورة العنكبوت، 43)،
والعالمون هم الذين يملكون أدوات البحث العلمى فى الواقع الخارجى أو النص المكتوب
ويعرفون طرق البرهان والاستدلال، كما يعرفون قدرات العقل وحدوده والشروط التى تحكم عمله
وتبين ما الذى يستطيع العقل أن يعرفه، وما الذى لا يستطيع أن يعرفه، وما الطريقة المنضبطة
التى يتوصل بها العقل إلى المعارف، فالعقل المنضبط بمعايير البرهنة والاستدلال العلمى
له دور لا يُنكر فى عملية المعرفة بالواقع أو الكتاب.
لكل هذا لا بد من الإقرار بنسبية العقل البشرى وتطوره بتطور العلم والمعارف،
ومن ثم انتباذ الجمود الأيديولوجى النظرى الذى تتسم به التيارات المتعصبة
التى تعارض تجديد أمر الدين أو تطور العلوم الإنسانية والطبيعية.
وهنا تكمن مأساة التيارات المتطرفة التى تعتقد أنها وحدها تملك الحقيقة المطلقة،
ومن هنا أيضاً ينبع الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين عند الوصول إلى الحكم.
وعندما يضيع الحكم يؤدى وهم امتلاك الحقيقة المطلقة إلى الإرهاب!