خالد البرى
الفارق بين الجدل النظرى، والسياسة الواقعية، كالفارق بين الإجابة عن سؤال نظرى
حول الأدوية المستخدَمة لتخفيض سكر الدم، وبين تولى مسؤولية علاج مريضة بالسكرى.
حالة المجتمعات مركبة كحالات الأفراد. التركيز على مشكلة واحدة، دون معرفة التاريخ الصحى للحالة، خطأ قاتل.
أحيانا يكون الدواء فيه أكثر خطورة على حياة المريض من الداء نفسه. ويكون الخيار الذى تملكين عليه ألف دليل
من «مراجع» الطب خيارا قاتلا. تخفيض سكر الدم فى مريضة تعانى من قصور فى عمل الكُلى،
مختلف تماما عن تخفيضه فى مريضة كُلْيتها تعمل بطريقة جيدة.
هنا يبرز مفهوم الخيار. معنى الخيار تفصيلا. حدود الخيار، ومداه، وطبيعته. ثم قدرته الواقعية على التنفيذ.
لو جلستِ فى المقعد الخلفى للسيارة تستطيعين أن تقولى إن خيارنا هو الالتزام بالحارة اليمنى، وتجنب تجاوز السيارات.
خيار آمن ومناسب لقدراتنا. لكننا ونحن نجرّبه فوجئنا بحجارة أو مطبّات أو سيارة تتصرف بلا مسؤولية،
أو غير ذلك من العقبات. هنا لا بد من تجاوزها، والخروج إلى الحارة اليسرى.
هل خروجنا إلى الحارة اليسرى خيار دائم؟ لا، أبدا. المفهوم، والمفروض، أنه خيار مرحلىّ لتجاوز عثرة فى الطريق.
هل خروجنا إلى الحارة اليسرى خيار ضرورى؟ نعم. لأننا لو التزمنا بالحارة اليمنى أضررنا بأنفسنا.
هل خروجنا إلى الحارة اليسرى يحمل أخطارا؟ معلوم. لكن لا بد منه. وهنا الفارق سيكون كبيرا
بين من يجيدون القيادة -يتحملون المسؤولية- ومن لا يجيدونها.
التباس الفهم لدى القوى المدنية بشأن طبيعة الخيارات يؤدى بها إلى تصنيفها إلى حلال وحرام،
وإلى تصنيف متخذيها إلى «حارة شمال» و«حارة يمين»، حتى لو كان متخذو هذه الخيارات المرحلية
كانوا سابقا، أو ربما يكونون لاحقا، فى الحارة الأخرى.
مسؤولية القوى المدنية أن تقدم حلولا واقعية، نظاما متكاملا فى كل قضية سياسية واجتماعية تبرز أمامنا.
وأن لا تكتفى بالاشتباك الجدلى مع معوقات الوصول إلى مجتمع ودولة مدنيَّين قائمين على احترام حقوق الإنسان
وعلى الديمقراطية والكفاءة والمواطنة والمساواة. التيارات الدينية فعلت ذلك على مدار سنوات،
حتى نجحت فى إقامة «مجتمع مواز»، يضغط من أجل فرض قبول نمطها ودمجه فى المجتمع الكبير.
من خلال تشريعات شخصية، وتشريعات حسبة، ومواد دستورية. من خلال إشاعة لمنطقهم فى التفكير.
من خلال نشر كود فى الملبس والكلام والفن والكتابة. نعترض على هذا النمط أو نوافق عليه، ليست هذه النقطة،
المهم أنها قائمة. أما القوى المدنية فخجلة من مجرد طرح مثل هذه الرؤية التطبيقية ونشرها والدعوة إليها.
وبالتالى فإن اشتباكها النظرى يبقى فى حيز الجدال النخبوى. ليس له أثر لا فى تحية الناس بعضهم بعضا
فى الصباح والمساء، ولا فى قوانين الزواج والطلاق والميراث، ولا فى تقوية موقع النساء والأقليات.
ولا فى الأداء الاقتصادى. معظم النجاحات هنا -على قلتها- كانت بمبادرة من قطاعات فى السلطة.
المسؤولية أيضا تظهر فى مدى نجاح القوى المدنية فى الاصطفاف، وفى إبراز قيادات جديدة مقنعة.
وهنا فإن سلوك المحسوبين على التيارات المدنية، مثل التنابز وتحويل الخلافات السياسية إلى خلافات شخصية،
غير مبشِّر بالمرة، ويعطى انطباعا للجماهير بأنهم -تأدُّبًا- يتعاملون مع «شوية عيال».
والمسؤولية تظهر فى مدى قدرة القوى المدنية على قراءة الواقع السياسى، واختيار التحالفات على أساسها، و
ليس على أساس «الحارة اليمين والحارة الشمال»، أى ليس على أساس الخضوع للابتزاز.
ثم إن القدرة على تحمل المسؤولية مفتاح القدرة على اتخاذ الخيارات. تلاحظين ذلك على مستويات عدة.
فى تربية ابنك الصغير، فى اختياره بين البدائل إن ذهب لشراء طلب ولم يجد المطلوب بالضبط.
وفى الفرق فى التعامل بين «مسؤولة» فى مصلحة وبين «المكلَّفين» تحت يدها. عبيد المأمور أكثر الناس التزاما
بالتكليفات بحذافيرها، لماذا؟ لأنهم لا يتحملون المسؤولية. ويحتمون بالتكليفات -الأوامر- النصوص.
ولديهم استعداد للجدال معك من هنا إلى الصبح، معتقدين أنهم يملكون الحق الدامغ. الآن، كم من القوى المدنية
تتجلى فيهم «بيروقراطية الثقافة» تلك. بيروقراطية الثقافة لدى القوى المدنية، وأصوليتها، مقال غد.