منذ أن تولى الدكتور مرسى الحكم والسؤال الذى يؤرق الباحثين يدور حول حقيقة العلاقة بين
نظام الدكتور مرسى ونظام الولايات المتحدة الأمريكية. وقد دار هذا السؤال فى ذهنى كثيراً،
وقد أصابنى بتوتر شديد واصطدام بثوابت -أو كنت أظنها من الثوابت- عن حقيقة رؤية الإخوان المسلمين للأمور.
بدأت بالمفاجأة التى أطلقها الدكتور عصام العريان عندما كان رئيساً للمكتب السياسى للإخوان،
وقال ما نصه: «إنه يتوجب على الإخوان أن يتعاملوا مع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية
ليس على أساس الحرام والحلال، وإنما الواجب هو التعامل معها بمعايير المصلحة»، لقد أصابنى هذا التصريح بذهول،
فإذا كان الإخوان سيتعاملون على غير الحلال والحرام بشأن معاهدة كامب ديفيد أو غيرها من المعاهدات،
فعلى أى أساس سيتم التفرقة بين أى مجموعة حزبية وبين الإخوان المسلمين؟
وحاول الأستاذ «عاكف» أن يمتص غضب المصريين من هذا التصريح، وأن يجمِّل هذا التصريح ويخفف من صدمته
حيث إن إعلان «عصام» الاستغناء عن نظرية «الحلال والحرام» فى العلاقات الدولية كان بمثابة الصدمة الكبيرة،
فقال الأستاذ «عاكف» ما نصه: «إن (العريان) يعبر عن رأيه الشخصى فقط، وما قاله لا يعبر عن رأى الجماعة».
لكن الأيام تمر ثم يعلن «العريان» مرة أخرى أمام الرأى العام وأمام الأحزاب وأمام الجماعة نفسها
دعوة إلى الإسرائيليين للعودة إلى وطنهم الأصلى مصر، وقد تطوع الدكتور عصام العريان فى ذلك الوقت ليعلن للعالم
أن مصر هى التى طردت الإسرائيليين، وأن الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر قد أصدر قراراً بهذا المعنى،
ومن هنا فقد تأكد -لحسن الظن من أمثالى- أن المسألة ليست عفوية، فكما أن الأمم المتحدة أصدرت قراراً
بتعويض اللاجئين الفلسطينيين وقررت عودتهم، فيبدو أنه كانت هناك رغبة أمريكية لإحداث نوع من أنواع «المقاصة»،
أى بخصم هذه من تلك، وبنفس الطريقة والأسلوب أصدر الدكتور محمد بديع، وقد أصبح هو المرشد العام للإخوان المسلمين،
أصدر بياناً بأن «العريان» يعبر أيضاً عن رأيه الشخصى، إلا أن الباحثين لم يتركوا الأمور تمر،
ولاسيما أن الدكتور مرسى فى خطابه إلى شيمون بيريز لم يقتصر على وصفه بالصديق الوفى وإنما منح الدكتور مرسى
إلى بيريز كل الأراضى الفلسطينية على سبيل الهدية حين قال: «نتمنى لكم الرغد فى بلادكم».
ثم تتوالى بعد ذلك تصريحات الإخوان المسلمين الرسميين، وكلها تنظر إلى كامب ديفيد وإلى العلاقات الأمريكية المصرية
على أنها ثوابت لا يمكن هدمها كما لا يمكن هدم كامب ديفيد التى ظهر فجأة الاحترام الشديد لها.
إلا أن الباحثين على مستوى العموم قد رصدوا تقارباً جديداً بين التيار الصهيونى والإخوان المسلمين
اعتباراً من يوليو 2007؛ ففى 19 ديسمبر وقع أول اتفاق فى التاريخ بين الجمعية الإسلامية بشمال أمريكا
واتحاد اليهود الإصلاحيين، وينص الاتفاق على التزامات متبادلة بين الطرفين الموقعين، فيلتزم المسلمون
بمقاومة إنكار الهولوكوست النازية ضد اليهود بين صفوف المسلمين الأمريكيين، بينما يلتزم اليهود الإصلاحيون
بمقاومة ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، أى الخوف المرضى من الإسلام بين يهود أمريكا، واتفق على عقد منتدى سنوى
مشترك للجانبين الموقعين لدعم التفاهم وتوسيع مجالاته. ونوجه عناية القارئ إلى دراسة التفاصيل
التى وردت بشأن هذا التقارب والتوءمة بين مساجد الإخوان فى أمريكا ومعابد اليهود الإصلاحيين، وقد وردت تفاصيله
فى كتاب «الوحى الأمريكى»، للأستاذ «عبدالعظيم حماد»، فضلاً عن الرجوع إلى تفاصيل هذه الاتفاقيات،
بل إنه وبعد مرور أقل من عام بدأ العمل وفقاً للزيارات المتبادلة بين الجمعية الإخوانية واليهود الإصلاحيين.
وفى 18 أغسطس 2009 حدث لقاء لما يقرب من ثلاثين من رجال الدين المسلمين واليهود جاءوا من عشر دول أوروبية،
وشارك فى اللقاء زعماء من إخوان أمريكا كان على رأسهم «ممثلون للجمعية الإسلامية لشمال أمريكا،
والإمام محمد شمس على رئيس المركز الثقافى الإسلامى فى نيويورك، ومزمل صديقى رئيس مجلس الفقه الإسلامى فى شمال أمريكا»،
وشارك أيضاً الحاخام «جاك مولان»، رئيس جماعة «أجوداس حاخاييم»، ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقاء
«الإسلاموصهيونى» قد انتهى بزيارة متحف الهولوكوست. ثم دارت الأيام دورتها وفى 2009 وقع زعماء اليهود
وقادة من قيادات الإخوان بالولايات المتحدة رسالة مفتوحة للسياسيين والكتاب المسلمين فى العالم الإسلامى
وداخل الولايات المتحدة وأوروبا، يطالبون فيها بألا يستخدموا فى خطاباتهم العامة التعبيرات والتشبيهات المجازية
التى تصف إسرائيل بالنازية وأنها تتبع أساليب الهولوكوست ضد الفلسطينيين، وقد وقع على هذا الخطاب من المسلمين
مهدى البرعى وسيد سعيد، ومن الجانب اليهودى الحاخام ديفيد شايير شتاين
والحاخام جاك مولان رئيس معبد «أجوداس حاخاييم».
ثم تنتقل بنا وثائق كتاب «الوحى الأمريكى» إلى هذا الالتقاء الذى حدث بين الإخوان واليهود فى رحلة مشتركة
نظمتها وزارة الخارجية الأمريكية إلى معسكرات الاعتقال النازية لليهود فى «داخاو» بألمانيا و«أوشفيتز» فى بولندا.
وفى الثانى عشر من نوفمبر 2010 عقد المنتدى السنوى الثالث للإخوان المسلمين واليهود الإصلاحيين،
وقد ضم هذا المنتدى أضخم تجمع للمسلمين واليهود جنباً إلى جنب، وتم فى هذا الملتقى توقيع بروتوكول
للاستمرار فى توطيد الصلات بين الصهاينة وبين الإخوان المسلمين. وفى أبريل عام 2011، وبعد نجاح ثورة يناير
وإسقاط الرئيس حسنى مبارك، تم الاتفاق على توسيع التوءمة بين المساجد والمعابد اليهودية،
ليمتد إلى جميع دول أمريكا اللاتينية.
وفى مصر، بدأت التصريحات تتوالى عقب نجاح ثورة يناير، فتارة يرى الأستاذ عمرو دراج، القيادى الإخوانى،
أن المعاهدات الدولية لن تمس. وأخيراً فإنه قد قامت إسرائيل بالاعتداء على غزة كما هو معلوم للكافة،
وتم عقد اتفاق لأول مرة توقعه «حماس» بمباركة الدكتور مرسى، تم الاتفاق فيه على منع جميع الأعمال العدوانية،
فى إشارة إلى أعمال المقاومة، وتعهد الأطراف بوقف الحرب الكلامية أيضاً، والالتزام بالحوار فى حل المشكلات،
فى اعتراف واضح ببقاء الحال على ما هو عليه. وإذا كنت أنصح القارئ بقراءة الكتاب المشار إليه فى هذا المقال،
فإنى أخص بالدراسة والتدبر ذلك اللقاء السرى الذى عقد بين وفد أمريكى ووفد إخوانى، على رأسه الدكتور مرسى و«العريان»،
أفصح عن تفاصيله الوفد الأمريكى وأشار إلى أن الإخوان أبلغوا وقبلوا كل الشروط الأمريكية،
بينما أنكر الجانب الإخوانى هذا اللقاء. وعلى أى الأحوال فقد ورد فى هذا الكتاب القيم قائمة اللقاءات العلنية
وإشارة إلى غير العلنية بين النظام الأمريكى والإخوان.
وأنا أنصح القارئ أيضاً بالبحث عن بنود الاتفاق المشترك بين إسرائيل و«حماس» برعاية الدكتور محمد مرسى،
كما أنصحه أخيراً بألا ينسى هذه الفترة التى علقت عليها أمريكا الآمال، ومن هنا ينبغى أن يفهم القارئ سر عداء
الولايات المتحدة الأمريكية لثورة 30/6 التى عادت بالشعب المصرى إلى عصر الطهارة النفسية،
كما أن وقفة القوات المسلحة ضد العدوان الأمريكى على الإرادة المصرية
إنما تعبر عن أول وقفة جادة خلال ثلاثين عاماً.
وإذا كنا نفهم موقف قطر التابع للولايات المتحدة الأمريكية، فإننا أيضاً نتفهم أن السيطرة أصبحت كاملة لأمريكا على تركيا
وعلى مقدرات المقاومة الفلسطينية. وفى النهاية فإن الموقف المصرى فى هذه المرحلة تجاه أمريكا
إنما يشجع بقية البلدان العربية على إظهار مخالبها وهو ما يخيف أمريكا، ولاسيما وقد حدث تقارب بين أغلب هذه البلاد العربية
مع اتفاق مبدئى على انتزاع مصر من السقوط الاقتصادى أو حتى مجرد الاهتزاز، فهل تتصور معى أيها القارئ
أن خلال العام الذى حكم فيه الرئيس السابق «مرسى» شعب مصر وخلال العام الذى سبقه فى ظل البرلمان
الذى أطلق عليه البعض «البرلمان الإسلامى» وفى ظل ثلاثين عاماً أيضاً خلت من حكم «مبارك» لا نجد رئيساً أو زعيماً
منهم هاجم إسرائيل أو تعرض لها أو وصفها وصفاً لا يليق بتقاليد البروتوكولات المشتركة فيما عدا ما كان يردده
الدكتور رشاد بيومى أحياناً خارج السياق؟ من أجل ذلك فلا تتعجب أيها القارئ إذا ما أوقفت أمريكا توريد قطع السلاح لمصر
بحجة الانتظار للخريطة الديمقراطية، فى الوقت الذى تؤيد فيه نظام الحكم فى قطر الذى قام على أساس انقلاب
الابن على أبيه ثم ابن الابن على أبيه.. وهكذا، فدولة عقيدتها الانقلاب لا تتحدث عنها أمريكا ودولة صنعت ثورة
تقطع عنها أمريكا المعونة الاقتصادية، فهل قصدت أمريكا وجه الديمقراطية
أو قصدت الضغط لإعادة الحلم المفقود الذى ضاع مع ضياع النظام السابق؟