هل خلايا القلب تحب وتكره، وتؤمن وتكفر، وتنسى وتتذكر، وتحمل فى طياتها خصائص الحنان، والكراهية،
والغل، والإيمان، والكفر، والخوف، والوجل؟
لا شك أننا نؤمن جميعاً بكل هذا من خلال ما ذُكر فى القرآن الكريم من آيات،
فنجد: «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء-89)،
وكذلك الآية: «لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا
أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ * أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف-179)،
وآيات أخرى كثيرة، ونجد ذلك أيضاً فى الأحاديث الشريفة مثل حديث:
«ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب» (البخارى ومسلم).
ولكن يبقى السؤال: هل القلب الذى يوصف بكل هذه الصفات هو القلب المادى الذى ينبض بداخلنا،
أم أنه القلب الروحى وهو شىء غير مادى ينتمى للعقل، لكنه قد يؤثر على هذا القلب المادى والعكس؟
والإجابة تبدو واضحة وجلية فى الآية الشريفة:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ (الحج-46)،
إذن هو القلب الذى ينبض فى صدورنا، والتعبير فى باقى الآيات ليس مجازياً، ولكن الكيفية هى التى نبحث عنها،
فالقلب فى القرآن عالَم قائم بذاته، اتسعت معانيه وتعددت جوانبه، حتى لم يعد بإمكاننا حصره فى المعانى العاطفية وحدها
أو فى المعانى العقلية فقط، بل إنه يتجاوز هذا الجانب إلى الجانب الآخر، أو يحصل العكس تماماً أو يلتقيان معاً.
والقرآن الكريم يحتوى على 122 آية ذُكرت فيهن كلمة القلب، وهن يتحدثن عن جوانب كثيرة فى النفس البشرية
بحيث تشعرنا أحياناً أننا أمام صورة من صور العقل، أو أمام العقل ذاته، وأحياناً أخرى نشعر أننا أمام العاطفة
والأحاسيس والمشاعر الوجدانية، وأحياناً ثالثة نجد أنفسنا أمام جانب يجمع بين الجانبين العقلى
والعاطفى ويزيد عليهما عمقاً وبعداً آخر.
وخلال العقدين الأخيرين بدأ العلماء يكتشفون ما يسمى «ذاكرة الخلايا»، أى أن كل خلية من خلايا الجسم أيضاً لها عقل
وذاكرة خاصة بها، وبطبيعة الشخصية وذوقها وما تحبه وما تكرهه، وبعض المعلومات والتواريخ،
وأن هناك اتصالاً بين هذه الذاكرة، وذاكرة المخ المعروفة..
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أفْوَاهِهْمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون» (يس-65).
وقد ثبتت هذه النظرية من خلال عديد من الأبحاث قامت بها د. «انديس برت»، أستاذ علم الكيمياء الحيوية،
التى لاحظت بعض التغيرات فى شخصية من تم نقل قلب إليهم تشبه صفات صاحب القلب الأساسى، حيث ركزت أبحاثها
على كيفية تفسير مثل هذه الظاهرة علمياً، وقد توصلت د. «برت» إلى أن هناك بعض الوظائف المنوط بالعقل القيام بها،
تقوم بها أيضاً خلايا الأعضاء المختلفة من الجسم، وأن هناك رسائل متبادلة بين المخ وهذه الخلايا عن طريق
سلسلة قصيرة من الأحماض الأمينية العصبية «نيوروبيبتايد» التى كنا نعتقد أنها لا توجد إلا فى خلايا المخ
والجهاز العصبى فقط، ولكن تبين وجودها فى أعضاء الجسم الرئيسية مثل القلب.
ثم أتى بعد ذلك عالم آخر يدعى د. «أندرو أرمور»، وهو متخصص فى علم «أعصاب الغدد الصماء»
الذى يبحث فى علاقة المخ والأعصاب بالقلب والغدد الصماء، وأثبت أن هذه العلاقة بين المخ والقلب
إنما هى علاقة ذات اتجاهين ذهاباً وإياباً، وأدخل لأول مرة فى تاريخ الطب تعبير «مخ القلب» Heart Brain،
وأن للقلب بالفعل جهازاً عصبياً خاصاً به فى غاية التعقيد سماه «مخ القلب»، ويتكون من خلايا وموصلات عصبية
وبروتينات تعمل بشكل مستقل عن الأعصاب المخية. ويستطيع هذا المخ أن يتعلم ويتذكر ويشعر ويحس ويخاف ويؤمن،
وتترجم هذه المعلومات على شكل إشارات عصبية ترسل من القلب إلى المخ
(على عكس ما كنا نعتقد أن المخ هو الذى يشعر ويحس ويرسل الأوامر إلى القلب على شكل رسائل عصبية)،
وتصل هذه الرسائل إلى منطقة جذع المخ، وتؤثر فيها من خلال
تأثيرها فى الأوعية الدموية والغدد الصماء وتأثير ذلك فى الأعضاء، ثم تنتقل بعد ذلك تلك الإشارات الآتية من القلب
إلى المراكز العليا بالمخ التى تستجيب من خلال الإحساس والتقييم واتخاذ القرارات بناءً على الخبرات المعرفية المتاحة.