01.16.2014
انتهى الاستفتاء على الدستور، وبعد قليل قد يفتح باب الانتخابات الرئاسية، ومن بعدها البرلمانية،
وسنرى برامج عديدة مقدمة للمصريين مشحونة بوعود براقة، تتحدث عن معركة التنمية الشاملة الكاملة،
والإنجاز الهائل، لكن قد يكون الحل فى خوض «معركة صغيرة»، كيف؟ تعالوا لنعرف.
ما ظن أحد أن الصين ستفيق من حرب الأفيون، وتسترد وعيها، وتطلق طاقتها لتحقق وجوداً اقتصادياً،
ومن ثم ثقافياً وسياسياً كبيراً، فى كل مكان على سطح الأرض، بعد أن قررت أن تبدأ من مجال هامشى ضئيل فى عالم المال والقوة،
لكنه بالغ التأثير فى دنيا الحضور الثقافى والرمزى، ثم الاقتصادى فيما بعد، وهو صناعة «لعب الأطفال»،
التى لم تلبث أن اتسعت لتطوّق مجالات صناعية تلبى الاحتياجات اليومية البسيطة للفرد والأسرة فى أرجاء العالم كافة، م
ن ملبس وأدوات كتابية وزينة وهدايا.. إلخ، وأنجزت فى هذه الناحية إلى الدرجة التى تثير حنق وحقد الولايات المتحدة.
أما الهند، التى اختارت العصيان المدنى طريقاً للمقاومة فى أداء عبقرى قاده رمزها العظيم المهاتما غاندى،
فإن توصلها إلى السلاح النووى لردع غريمتها التاريخية باكستان لم يدفعها إلى التلويح بهذه «القوة الخشنة»
طريقاً لحيازة مكانة دولية، بل التفتت إلى إدارة معركة صغيرة كان انتصارها فيها مظفراً، بكل المقاييس، إلى درجة أن
الدولة التى كانت تحتلها وهى بريطانيا، باتت فى حاجة ماسة إلى الاستفادة من مظاهر هذا النجاح الهندى.
والمعركة التى اختارتها الهند بدأت بالسينما والموسيقى ووصلت الآن إلى عالم الاتصالات والبرمجيات.
فإذا كانت الموسيقى الهندية قد اكتسبت شهرة عالمية بتفردها وسحرها وعذوبتها وخصوصيتها التى تنبت
من ذائقة الهنود ووجدانهم، فإن سينما الهند خطت طريقها باقتدار، وفرضت أسواقها، ونافست السينما الأمريكية
فى آسيا وأفريقيا، على وجه الخصوص، وباتت تشكل مصدراً مهماً من روافد الدخل القومى للبلاد،
فى وقت يزيد فيه الطلب يوماً إثر يوم على مهندسى ومبرمجى الكومبيوتر الهنود للعمل
فى أرفع المؤسسات الاقتصادية والعلمية الأوروبية.
على النقيض من ذلك يقع خطابنا دوماً حين يطالب بمشروع نهضة كاملة وتمكن واسع ينتج مكانة وقوة دولية بارزة،
دفعة واحدة، وفى سرعة فائقة. وهذا الطرح لا يعبر عن طموح بقدر ما يشى بتجاهل حركة الواقع وسنن التاريخ،
وجهل فى قراءة الإمكانات الراهنة لنا، فتكون نتيجته إما الاستسلام للبقاء فى الظل واستمراء الضعف والهوان بعد تكرار الفشل
فى تحقيق نجاح كاسح دفعة واحدة، أو الميل إلى التفسير التآمرى لكل شىء، وكأن العالم لا شغل له سوى الكيد لنا.
وقد نكون معذورين جزئياً فى استعجالنا وإحساسنا بأن هناك ما يدبر ضدنا فى الخفاء، لكن العيب أن يتم تضخيم هذا العذر،
ليصبح بمثابة مرض نفسى عضال، يكرس حالة الهروب من مواجهة التفاصيل اليومية، أو تجاهل مسائل مهمة صغيرة،
وصغرها ليس طبعاً ولا طبيعة أصيلة فيها وإنما نتاج قيامنا بتهميشها بإرادتنا، وانحيازنا فى الوقت نفسه
لحساب «الكليات» الكبيرة، التى هى بنت الأيديولوجيا أكثر من كونها الإفراز الطوعى للواقع الذى يتبدل باستمرار.
لقد حان الوقت، للناس قبل السلطة، أن يلتفتوا إلى المعارك الصغيرة فيخوضونها بثقة واقتدار، بدءاً من معركة
تغيير الصورة النمطية المغلوطة عنا، التى تطفح بها مناهج التعليم ووسائل الإعلام الغربية، وانتهاء بتقديم إسهام
ولو بسيطاً فى حركة الحياة المائجة، ولنجلس مع أنفسنا، ونختَر بدقة الشىء الذى نتميز به عن الآخرين،
حتى لو كان بسيطاً، ثم نركز عليه، ننتجه بإجادة ودقة متناهية، ثم نقدمه للعالم،
ولتكن هذه هى معركتنا الصغيرة التى نبدأ بها، كى نتقدم إلى الأمام.