08.03.2013
محمد عثمان الخشت
العقل المغلق مثل الحجرة المظلمة التى لا نوافذ لها.. إنها لا ترى النور، ولا يمكن لمن بداخلها
أن يرى شيئاً سواء فى الداخل أو الخارج.. ولا يتنفس إلا هواءً قديماً،
أما أكسجين الحياة فلا يمكن أن يصل إليه!
إن صاحب العقل المغلق أشبه بالطفل فى رحم الأم، كل عالمه هو هذا الرحم،
وهو غير متصل مع العالم الخارجى، ولا يمكن لأحد أن يحاوره، ولا يمكن أن يخرج من هذا العالم ا
لمغلق بإرادته، إنه يظن أن الخروج من هذا العالم مهلكة،
وهو يصرخ بأعلى صوته ويتلوى ويرفس عند إخراجه قسراً!
ولذا لا يستطيع صاحب العقل المغلق أن يتجاوز ذاته أو عالمه الخاص،
ومن المستحيل أن يرى أى شىء خارج عقله، ولا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة
ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها يقينية قطعية لا تقبل المناقشة، بل يصل به الحد
إلى اعتبارها ذات طابع إلهى.. وأن الله تعالى معه! بل إنه ممثل الله على الأرض.
والله ليس رب العالمين، بل ربه هو فقط.
وعندما يدخل فى صراع مع أحد، فالبديل الوحيد عنده هو إعلان الحرب المقدسة؛
فهو وحده على طريق الحق والخير، وغيره كافر، أو عَلمانى، أو ضال، أو شرير أو فاسد.
وهكذا يتحول معه العالم إلى: أبيض وأسود، ملائكة وشياطين، دار السلام ودار الحرب.
وهذه الحالة من الانغلاق العقلى التى يعيشها تجعله منفصلاً تماماً عن الواقع؛
أسير أوهام يعتبرها مقدسة ومنزهة!
وليس بوسع أحد أن يفرض على العقل المغلق الذى ينطلق من موقف عقائدى مغلق، قواعد وقوانين
من خارج مفاهيمه وحقائقه هو، لأنه هو الذى يحددها ويختارها ويلتزم بها بمقدار ما
تخدم قضيته، وبما تتناسب مع الظروف التى يكافح فيها.
ومن هنا، فإن قاعدة الضرورات تبيح المحظورات مستخدمة عنده على أوسع نطاق لتحقيق مصالحه الخاصة
وأهوائه، والضرورة عنده ليست هى الخط الفاصل بين الحياة والموت مثلما قال الفقهاء،
بل هى الخط الفاصل بين مصالحه الشخصية والمبادئ الأخلاقية العامة،
وعندما تتعارض مصالحه مع الدين أو مع الأخلاق أو مع المصالح العامة، يقوم على الفور
بإعادة تفسيرها أو بالقفز عليها؛ فإذا كانت الخمر محرمة فى الشريعة، فهى مباحة عنده،
يسمح ببيعها وأخذ الضرائب عليها.. وينسى أن الخمر مباحة فقط عند عدم وجود الماء،
والشروع فى الموت عطشاً، وهذه هى الضرورة فى الشريعة..
أما عنده هو، فالضرورة تتسع لمجرد تحصيل الضرائب!
وإذا كانت إسرائيل عدواً لدوداً يطالب بمحوها من على وجه الأرض من أجل المزايدة السياسية،
فإن الضرورة (المنبعجة) التى يؤمن بها من أجل تحقيق مصالحه
تدفعه فى ظروف أخرى لاعتبارها صديقاً حميماً!!
لاحظ معى أن العقل المغلق ينتقل من الموقف لنقيضه تبعاً لأوهامه التى تتخذ نقطة ارتكاز مخادعة،
ونقطة الارتكاز ليست هى الدين أو الوطن أو المصالح العامة، إنها فقط أهواؤه ومصالحه الشخصية المؤقتة،
وهى نقطة مخادعة لأنه يوهم نفسه ويوهم الآخرين فى كل مرة أنها نقطة ارتكاز الدين أو الوطن،
بينما هى فى الحقيقة نقطة ارتكاز مصالحه الشخصية!
وحتى لا أطيل على القارئ، ألخص له
مجموعة السمات التى يتسم بها صاحب العقل المغلق، وهى:
1. الاستئثار بالحقيقة، أى يزعم أنه وحده الذى يعرف الحقيقة!
2. عدم الرغبة فى فتح قنوات للحوار مع الآخر.
3. إذا اضطر لفتح الحوار لا يقدم أى تنازلات.
4. لا يدخل فى عهد إلا إذا كان ضعيفاً ومضطراً، وعندما يقوى يقوم بنقضه على الفور.
5. التقية هى سلاحه الذهبى فى خداع الآخرين.
6. إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر.
7. لا يبحث عن الأرضية المشتركة مع التيارات الأخرى.
8. ينغلق على نظام قيم معين بصورة جامدة.
9. ثقافة التسلط، حيث الرغبة فى التحكم التام فى الآخرين وفرض أفكاره ورغباته وطريقة حياته عليهم.
ومن غير الخفى أن العقل المغلق ليس فقط طابعاً يميز بعض التيارات الدينية الأصولية،
بل هو طابع بعض الحركات الشيوعية والعلمانية أيضاً التى تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة!
ويظهر العقل المغلق كسمة أيضاً وبوضوح فى بعض المواقف الغربية التى تتخذ موقفاً معادياً
من الحضارات الأخرى وتزعم أن نموذجها الحضارى هو النموذج الأمثل بشكل مطلق!
ولذا فهى تعمل جاهدة على تعميم هذا النموذج من خلال العولمة وترسيخ مفهوم صراع الحضارات،
التى تنظر فيه إلى حضارتها كممثلة للمدنية، أما الحضارات الأخرى فهى بدائية!
وهنا فالقوى الغربية لا تعمل إلا لتحقيق مصالحها الخاصة، بل تعمل على تدمير الآخر،
مرة بالحرب المباشرة، ومرة باستراتيجية «فرق تسد»، ومرة بزرع بذور الفتنة الأهلية
بين أبناء الوطن الواحد، وفى كل هذه الاستراتيجيات ترفع شعار الديمقراطية،
والحوار، وحقوق الإنسان!
لقد كان الغرب حاضراً فى كل مرة: الحروب الصليبية على الشرق، فلسطين الحديثة،
أفغانستان، باكستان، العراق، تونس، ليبيا، سوريا، والوجهة هذه المرة هى مصر،
لكن باستراتيجية جديدة هى: «التحالف مع الأصوليات».