كان أول من خالف الإجماع لمصلحة يراها هو سيدنا أبوبكر الصديق، ثم الخلفاء من بعده إلى يومنا هذا؛
حتى يكون ذلك أبلغ رد فى مواجهة من نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين، ويسعون باسم الغيرة والحب للإسلام
إلى تخلفه عن الحضارة الإنسانية، زاعمين أن ما أجمع عليه الصحابة (رضى الله عنهم) بعد موت النبى (صلى الله عليه وسلم)،
والفقهاء من بعدهم فى كل عصر، يصير ديناً ملزماً لكل المسلمين فى الأجيال التالية إلى قيام الساعة لا يسعهم الاجتهاد فيه،
حتى حاول البعض فاشلاً إقحام تلك الأحكام المجمع عليها فى تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية فى مشروع الدستور الجديد
الذى سيطرح للاستفتاء فى مطلع العام الميلادى الجديد 2014م، متغافلاً طبيعة الإسلام المتجددة،
كما أخرج الحاكم وأبوداود بسند صححه الألبانى عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال:
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». ولن يتم التجديد فى الدين بحسب
نبوءة النبى (صلى الله عليه وسلم) على أيدى الجامدين الموهومين بأن الإجماع حجة أبدية،
فما هو إلا اتفاق بشرى يخضع لأحكام العقود والعهود المتعلقة بأطرافها دون قهر إرادات الأجيال المقبلة،
كما ذهب إلى ذلك العالم الأصولى الكبير أبوعبدالله البصرى، وقال الإمام الرازى: «هو الأولى؛ خلافاً لما عليه الجمهور».
وسوف نذكر فيما يلى نماذج من مخالفة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم لأحكام سبق الإجماع فيها؛ لإعلاء شأن المصلحة
التى لا يخنقها إجماع بشرى فائت، وحتى يهدأ الثائرون وينطلق المجددون:
(1) خروج أبى بكر الصديق عن منهج البيعة المجمع عليه فى تنصيبه للخلافة إلى منهج الاستخلاف لعمر من بعده؛
خشية الفتنة. فقد أخرج البيهقى فى «الاعتقاد» عن الإمام الشافعى قال: «أجمع المسلمون أن يكون الخليفة واحداً،
فاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أبوبكر عمر، ثم عمر أهل الشورى ليختاروا واحداً».
(2) امتناع عمر عن قتل المرتد الذى كان محل إجماع فى عهد أبى بكر، ورأى عمر أن المرتد يستتاب أبداً ولا يقتل،
وقد أخذ بقول عمر فى هذا النخعى والثورى، وحكاه ابن حزم عن طائفة. ودليل مذهب عمر فيما أخرج مالك والبيهقى
عن عبدالقارى، قال: «قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبى موسى الأشعرى فسأله عن الناس، فأخبره،
ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه.
(3) زيادة حد الخمر إلى ثمانين جلدة
خلافاً للإجماع السابق على أربعين، وموافقة جمهور الفقهاء على ذلك؛ خلافاً للمعتمد عند الشافعية ورواية للحنابلة
ومذهب الزيدية. ويدل على مذهب عمر (رضى الله عنه) ما أخرجه الدارقطنى والطحاوى والبيهقى والحاكم وصححه،
عن وبرة الكلبى، قال: «أرسلنى خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب فأتيته وهو فى المسجد معه عثمان بن عفان
وعلى وعبدالرحمن بن عوف وطلحة، والزبير متكئ معهم فى المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلنى إليك
وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا فى الخمر وتحاقروا العقوبة! فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم.
فقال على: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون جلدة. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال،
فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين».
(4) احتساب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثاً بعد أن كان معدّاً طلقة واحدة. وقد أخذ بقول عمر أكثر أهل العلم من بعده،
فقد أخرج مسلم فى صحيحه عن ابن عباس، قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبى بكر
وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا فى أمر كانت لهم فيه أناة،
فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم».
(5) جمع الناس على إمام واحد فى صلاة التراويح بعد أن كانت أفذاذاً، وقد أخذ بقول عمر أكثر أهل العلم،
فقد أخرج البخارى عن عبدالرحمن بن عبدالقارى، قال: «خرجت مع عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)
ليلة فى رمضان إلى المسجد فإذا الناس أَوْزَاعٌ متفرقون يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط،
فقال عمر: إنى أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبىّ بن كعب،
ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه».
(6) حبس الأرض المفتوحة عنوة لصالح بيت المال للأجيال القادمة وعدم توزيعها غنيمة؛ لتكون فيئاً،
وقد أخذ بذلك الإمام مالك ورواية عن أحمد. وقال أبوحنيفة: «يجوز للإمام جعلها فيئاً أو جعلها غنيمة».
وقال الشافعى، والرواية الثانية عن أحمد: «إنها تقسم غنيمة؛ لما جرى عليه العمل قبل اختيار عمر».
ويدل على فعل عمر ما أخرجه عبدالرزاق وأبوعبيد: أن عمر بن الخطاب امتنع عن تقسيم سواد العراق على الفاتحين،
وكان منهم من الصحابة،
وقرأ قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ» [الحشر: 10]،
ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، وليس أحد إلا له فى هذا المال حق.
(7) تفويض المسلمين فى إخراج زكاة أموالهم الصامتة فى عهد عثمان بن عفان بعد أن كان جمعها وإنفاقها
على المستحقين مسئولية الحاكم بالإجماع من قبله؛ وذلك بعد أن اكتشف عثمان تجاوز السعاة فى جمعها بما يسىء
إلى الحرمات الخاصة، كما جاء فى كتاب «الأموال» لأبى عبيد القاسم بن سلام.
(8) نقل على بن أبى طالب عاصمة الخلافة إلى الكوفة بالعراق سنة 35هـ بعد أن كانت بالمدينة المنورة بالإجماع
فى عهود أبى بكر وعمر وعثمان.
(9) خروج ابن تيمية المتوفى 728هـ عن الإجماع قبله وإصدار فتواه باحتساب الطلاق بلفظ الثلاث طلقة واحدة؛
بعد انتشار ظاهرة تفكك الأسر.