08.06.2013
د . أحمد خالد توفيق
سوف أقدم لك خدمة عظيمة؛ هى أن أكف عن الكلام عن السياسة من الآن فصاعدًا،
وهو قرار اتخذته عدة مرات لكن الكلمات كانت تحتشد حتى لأوشك على الانفجار
وأضطر إلى العودة لحقل الألغام فى كل مرة. لقد تغيرت أشياء كثيرة فى مصر بالفعل،
وصار التطرف هو الأساس، سواء كان تطرفًا دينيًا او ليبراليًا، وصار الاعتدال جريمة شنعاء.
بصراحة الشعب المصرى صار شعبًا عنيفًا دمويًا لكنه مصر على أنه مسالم. أعتقد اننا نعيش ذات أجواء
مباراة الجزائر القديمة لكن على نطاق واسع، وبعد أعوام عرف الجميع ا
نهم كانوا ذبابًا فى شبكة عنكبوت عملاق يحركهم كما يشاء..
كنت ألوم نفسى دومًا عندما أصمت حيث لا ينبغى الصمت، وأتهم نفسى بالجبن.. على طريقة:
« إن لم يكن الآن فمتي؟.. وإن لم يكن أنا فمن؟». كنت ككاتب تعرف أنك تواجه السلطة الغاشمة
لكن القارئ فى صفك وأن من حقه عليك أن تتكلم. الوضع اليوم فريد هو أن القارئ هو غالبًا من يريدك
أن تقول ما يريد فقط أو تصمت. على كل حال هذا بلدكم يا سيدى فافعلوا وقولوا ما تشاءون..
مقال اليوم عن سنودن، وهو مقال يتكلم عن سنودن فعلاً بلا أى إسقاطات من أى نوع...
وصلنى منذ أيام خطاب من صديقة عزيزة تدعونى فيه للتضامن مع سنودن الشاب الأمريكى حديث الساعة.
يقول الخطاب: «هذا الشاب البالغ من العمر ٢٩ عاماً، تخلّى لتوه عن حياته بأكملها! --
حبيبته وعلمه ومنزله -- كى يفضح للعلن برنامج الحكومة الأمريكية الصادم PRISM --
والذى كان يقرأ ويسجل بريدنا الالكترونى ورسائلنا على سكايب والفيسبوك ومحادثاتنا الهاتفية لسنوات.
إذا تحركنا بسرعة، من الممكن أن نفعل ما هو أفضل مع إدوارد، ونساعده بالانتصار بالمعركة
التى خاضها بشجاعة من أجلنا جميعاً».
أعتقد انك تعرف كل شيء عن سنودن الآن.. إدوارد سنودن شاب امريكى فى الثلاثين من عمره.
عميل لدى المخابرات المركزية الأمريكية. بعد فترة طويلة من العمل قام بتسريب تفاصيل برنامج بريزم
هذا إلى جريدة الجارديان وواشنطن بوست وفر إلى هونج كونج. هكذا اتهمته الحكومة الأمريكية
بالتجسس وطلبت تسليمه لها لكنه فر إلى روسيا..
هناك استقر فى الترانزيت بالمطار فى مشهد يذكرنا بفيلم Terminal فيلم توم هانكس الشهير..
أو فيلم الحدود للعبقرى دريد لحام. العالم كله يقابله هناك لكن الحكومة الروسية لا تسمح له بالدخول.
قال إنه راغب فى الفرار إلى الاكوادور وبذلت الحكومة الأمريكية جهدًا كبيرًا لاستعادته.
وسبب سنودن أزمة دبلوماسية كبرى بين روسيا والولايات المتحدة.
كتبت لهذه الصديقة إن الأخ سنودن هو آخر موضوع أهتم به حاليًا
بينما نصف الشعب المصرى يريد ذبح النصف الآخر. هذه مشاكل مترفة جدًا بالنسبة لى،
دعك من اننى واثق من أن عشر جهات على الأقل تراقب حاليًا بريدنا الالكترونى ومحادثاتنا الهاتفية فى مصر...
ما جتش على المخابرات المركزية.. لكن هناك نقطة أخرى لا أستطيع ان أتخلى عن التفكير بها:
لقد أفشى هذا الرجل أدق أسرار بلده لحكومات أخرى وللصحف.. على المستوى العالمى الكونى
هذا عمل بطولى يخدم البشرية والحرية، لكن ماذا عن المستوى المحلى الضيق؟
أليس معنى هذا ان سنودن جاسوس وان من حق الحكومة الأمريكية ان تنكل به فعلاً؟.
تخيل معى أن يذهب ضابط مصرى إلى أمريكا ليخبرهم بأسرار برنامج صواريخ مصرى مثلاً..
سوف يكتبون عنه باعتباره بطل الأبطال وسوف يظهر على غلاف مجلة تايمز مرارًا..
لكن هل نستطيع نحن أن نعتبره أى شيء سوى خائن؟
من ضمن هؤلاء الأبطال الذين يثيرون التساؤل موردخاى فعنونو.. خبير نووى اسرائيلى من أصل مغربى
وذو ميول يسارية واضحة. عمل فى مفاعل ديمونه النووى الرهيب..
ثم أنه ارتحل إلى أستراليا عام 1986 حيث قابل صحفيًا شهيرًا وحكى له عن اسرار المفاعل،
وعرض عليه مجموعة صور تدل على امتلاك اسرائيل للقنبلة النووية. بل إن الخبراء النوويين
اكتشفوا من الصور أن لدى إسرائيل ترسانة قوية جدًا تقدر بـ 200 رأس نووى..
كالعادة اختطفته اسرائيل من الخارج ونقلته إلى داخل البلاد لعقابه.. كان مولعًا بالنساء
وهكذا دسوا له امرأة حسناء استطاعت أن تدير رأسه وتخدره. وفى إسرائيل عوقب بالسجن لمدة 18 عامًَا.
وقد غادر السجن عام 2004 ليعيش فى تل أبيب تحت قيود مرعبة.. بصعوبة يسمحون له بالتنفس.
وقد نال عددًا لا حصر له من الميداليات واعتبره الكثيرون بطلاً عالميًا ورشحوه لجائزة نوبل للسلام.
هذا رجل شجاع فعلاً لكن لو أنك إسرائيلى فكيف ستنظر له؟.. بالنسبة لنا كمصريين هو بطل طبعًا..
لكنى سأقدم لك مثالاً آخر: يحكى هيكل فى كتابه عن حرب الخليج عن البرنامج النووى العراقى
الذى ظل لغزًا بعد حرب الخليج الثانية، وهنا - عند الحدود التركية مع العراق –
كان اللاجئون العراقيون يتقدمون، فبرز رجل فى الأربعين طلب مقابلة ضابط أمن أمريكى. سرعان ما جلبوا
ضابط مخابرات أمريكيًا ليقابل الرجل، وبعد حديث دام ربع ساعة فطن الامريكى إلى انه وقع على كنز.
الرجل الهارب عالم عراقى يعمل فى مؤسسة الطاقة النووية وقد أثبت شخصيته، وكان شرط العالم واضحًا:
الهجرة له وأسرته إلى الولايات المتحدة. وصل لموقع الحدود خبير نووى أمريكى أعاد استجواب الرجل
, وكان أقدر واحد على معرفة قيمة هذه المعلومات. هكذا تم نقل العالم فى اليوم التالى لواشنطن
حيث قاموا باعتصاره كالليمونة لمعرفة ما لديه من أسرار. وسرعان ما وصلت إلى بغداد بعثة من الأمم المتحدة
تعرف ما تبحث عنه بالضبط.. تتجه إلى وزارة العمل العراقية لتفتش عن ملفات العلماء فى البرنامج النووى.
كان هذا طبعًا عندما كان البرنامج النووى العراقى منتعشًا.. أمريكا تعرف قبل أى واحد آخر
انها دمرته تمامًا، وفيما بعد قال البرادعى نفس الشيء الذى تعرفه أمريكا:
«لم يعد هناك برنامج نووى عراقي». وهو ما حوره كارهو البرادعى للعكس تمامًا على الطريقة العكاشية
كما تعرف. بالنسبة لأمريكا يعتبر هذا العالم العراقى بطلاً... لكن ما رأيك أنت؟.
هل هو خائن سلم أدق أسرار بلده للغرب؟.. لو كنت ترى أن الإجابة نعم فلماذا تدافع عن سنودن؟
من الممكن أن يزعم العالم أنه يعمل لمصلحة وطنه البعيدة التى خمنها بفكره الثاقب.
الضباط الذين انقلبوا على هتلر فى مؤامرة الجنرالات كانوا يرون ذلك. لكن هذا يجعل أمورًا كثيرة
خاضعة للتفسير الشخصى. أنت تعرف موضوع (منظمة السلام العالمي)
التى كانت حجة كل جاسوس مصرى يتم القبض عليه.
هذه مسألة منطقية مربكة فى رأيى.. فقط أعرف شيئًا واحدًا: أنا لن أطلب الإفراج عن سنودن هذا أبدًا...