المصرى واحد من الأسرة الإنسانية، وإن شئت فقل هو من أصول الأسرة الإنسانية، لكنه لم ينسلخ عنها
فى الحقوق والواجبات العامة المتعلقة بصفته آدمياً أو بشراً. وقد كان الأصل البرىء فى الفطر السوية
منذ الأبناء البكريين الأول لسيدنا آدم (عليه السلام) أن الحياة حق لكل نسل آدم لا يجوز الاعتداء عليه،
بل يجب على كل إنسان أن يحمى حياة نفسه وحياة بنى جنسه فى مواجهة أى عدوان عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وتناقلت الرسالات السماوية المتتابعة هذا الأصل الفطرى فى صورة تشريع صريح كانت خاتمته فى خطبة الوداع
عندما قال النبى (صلى الله عليه وسلم):
«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا.
ألا قد بلغت اللهم اشهد. ألا فليبلغ الشاهد الغائب». (أخرجه الشيخان عن أبى بكرة واللفظ للبخارى).
مما سبق يمكن القول فى الجملة بأن دم الإنسان كله حرام، المصرى وغير المصرى. ويا ليت الناس يقفون عند حدود هذا الحرام
ولا يتجرأون عليه، فيأمن كل إنسان على نفسه وماله وعرضه فى مواجهة الآخرين، ومهما كانت النزاعات بينهم
فإنهم يتقاضونها بالطرق السلمية أو بتفويض الأمر إلى الله (تعالى) يوم لقائه.
ولكن قد ينحرف بعض الناس عن هذا الأصل الفطرى الذى يميز الإنسان عن سائر مخلوقات الدنيا،
فيتحول إلى ظالم بقتل خصومه وإفساد أموالهم، وقد يتفاحش ظلم هذا الظالم عندما يقتل الأبرياء المحيطين بخصومه
ويهتك أعراضهم ويهلك أموالهم زيادة فى التنكيل والترويع، وقد يتضاعف فحش هذا الظالم عندما يستخدم فى ظلمه
أدوات الغدر والخيانة والغيلة بما يستهدف الأبرياء المجهولين كما فى أساليب السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة
والعمليات التفجيرية، ونحو ذلك من أدوات القتل العمياء التى تفتت الضحية وتشوه المصاب باستئصال بعض أجزاء جسمه،
كما رأينا ذلك فى أيامنا هذه من جماعة تدعى «أنصار بيت المقدس» الموالية لجماعة الإخوان المسلمين ضد الأبرياء
من أبناء المنصورة والقاهرة وكثير من محافظات مصر المحروسة.
إن أصحاب مقولة «الدم المصرى كله حرام» فاتتهم دروس قرآنية كثيرة، من أهمها: حق القصاص،
وملاحقة المفسدين، وعزل الحاقدين عن الحياة العامة.
ونوضح تلك الدروس الثلاثة فيما يأتى:
(1) أما حق القصاص، فقد جعله الله فوق مقولة «الدم المصرى كله حرام» عندما نص القرآن الكريم
على أن القصاص كُتب، أى فرض، لولى الدم تنفيساً لغضبه،
فى عموم قوله (تعالى): {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى} [البقرة: 178].
وعندما جعله القرآن الكريم أساساً لإقامة الحياة ودوامها فى مواجهة القتلة
كما فى قوله (تعالى): {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
ومن هنا لم يكن النهى فى كتاب الله عن قتل النفس وتحريم الدماء بصفة مطلقة، وإنما ورد باستثناء حق القصاص،
فقال (سبحانه): {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتى حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً
فَلَا يُسْرِف فِى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33].
(2) وأما ملاحقة المفسدين، فقد جعلها الله فوق مقولة «الدم المصرى كله حرام» عندما نص القرآن الكريم
على جزائهم ووصفهم بأنهم محاربون لله ولرسوله
فقال (تعالى): {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34،33].
(3) وأما عزل الحاقدين عن الحياة العامة فى المجتمع، فقد جعله الله فوق مقولة «الدم المصرى كله حرام»
عندما نهى القرآن الكريم عن اتخاذهم بطانة، لأنهم يفرحون بالمصائب تقع على الناس، ويحزنون بالخير يأتى للناس،
فى عموم قوله (تعالى): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ
وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118-120].
بقى أن نقول لأصحاب مقولة «الدم المصرى كله حرام» أمرين؛
الأمر الأول: من أين هذا التشريع المفتئت على الله،
مع قوله (سبحانه): {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]
؟ أليس من الأمانة على من يصدر حكماً بالحلال أو الحرام أن يذكر أسانيده، وأن يقول هذا حكمى أو هذه رؤيتى فى الدين،
وليس حكم الدين فى المطلق؛ حتى لا يستغل الدين فى مجاملات سياسية.
الأمر الثانى: كيف تسمح ضمائر من يقول «الدم المصرى كله حرام» أن تسوى بين القاتل والمقتول، أو بين الظالم والمظلوم،
أو بين المعتدى والمعتدى عليه؟ ألم يقرأوا
قول الله (تعالى): {وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ} [فاطر: 19-22]؟
ألم يكن من الواجب على أصحاب تلك المقولة أن ينصروا أصحاب الحق دون مجاملة الظالمين،
إنه مهما كانت الصناعة اللغوية الساحرة، ومهما كان مصدرها من أهل الوجاهات، فإن الحق يعلو بأصالته وسيهزم الباطل
ولو كان مختبئاً فى زينة الكلام أو فى أفواه بعض الوجهاء،
كما قال (تعالى): {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].