كلما تأملت فى أحكام الإسلام، وجدتها تأخذ بيديك إلى الاستقلال بقيادة النفس،
فكل أحكام العبادات من الصلاة والصيام والحج، ونحوها لا تصح فى الدين ولا تقبل عند الله إلا بنية قلبية
وعزيمة نفسية من صاحبها استقلالاً، ولا يغنى عن ذلك نية الأمير أو عزيمة الإمام، فلا أحد يملك لأحد نية؛
لأن الله تعالى ألزم كل إنسان طائره (عمله) فى عنقه يلازمه فى الدنيا والآخرة،
وتختص الآخرة بأنه لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
وكل أحكام المعاملات من البيع والزواج والمشاركة السياسية ونحوها كذلك لا تصح فى الدين
ولا تقبل عند الناس إلا بإرادة ذاتية ورضا شخصى من أطرافها، ولا تغنى إرادة أحد الطرفين
ورضاه فى العقد عن إرادة الطرف الآخر ورضاه استقلالاً.
وما ذكرناه يؤكد تعظيم الإسلام لحرية الإنسان أمام أخيه الإنسان، وأنه لا مجال للتبعية أو الانقياد
إلا استثناءً فى صور الولاية على النفس للجنون أو صغر السن ونحوهما،
أما إذا بلغ الإنسان عاقلاً وصار رشيداً، فقد أوجب الله تعالى له إدارة شئون نفسه وماله،
كما قال سبحانه: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا» (النساء: 6)،
أى مبادرين بكبرهم فلا تتأخروا فى دفع أموالهم إليهم بزعم قرب عهدهم من صغر السن؛
حتى لا تطول فترة الطفولة ويتمكن كل إنسان من ممارسة إنسانيته المستقلة من بادئ سن الرشد.
والاستقلال فى قيادة النفس واتخاذ قرارها لا يعنى الانقطاع عن الآخرين أو معاندتهم،
وإنما يعنى أن يقرأ الإنسان واقعه على قدر استطاعته ويعرف وجهات النظر المختلفة فى المسألة،
ثم يتخذ القرار الذى يراه من وجهة نظره الأصوب بحسب غلبة ظنه، وقد يكون قراره هذا موافقاً
لاتجاه سابق، وقد يكون ابتكاراً لم يسبق إليه، المهم أنه بذل ما فى وسعه واجتهد حتى أصدر القرار
الذى اطمأنت إليه نفسه واستراح إليه قلبه، وإن رآه الآخرون خطأ؛ لأن رؤيتهم ليست أولى بالتقديم من رؤيته،
وإنسانيتهم ليست أولى بالتكريم من إنسانيته، والله عز وجل قد وعد المجتهد بالأجر،
وجعل الحكم بصواب الاجتهاد أو خطئه غيباً لا يعرف إلا يوم القيامة حتى لا يتعالى أحد من البشر على صاحبه،
وحتى يثق كل إنسان رشيد فى نفسه، ولا يخضع لمخلوق مثله،
وقد أخرج الترمذى وقال: حسن غريب -ولكن الألبانى ضعفه- عن حذيفة بن اليمان،
إن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا،
وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا».
وأخرجه الطبرانى موقوفاً على عبدالله بن مسعود،
أنه قال: لا يكون أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يقول: إنما أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت،
وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطن أحدكم نفسه على إن كفر الناس لا يكفر.
وهذه التبعية العمياء أو الإمعية الصماء كانت من أحد أسباب دخول النار وندم أصحابها، كما قال تعالى:
«كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ» (المدثر: 38-45)،
أى كلما غوى غاوٍ غوينا معه، كما قاله قتادة.
وقد حرص الرسول على تدريب أصحابه على ممارسة هذا الاستقلال فى قيادة النفس،
وكان يستثمر نزول التشريع لإعلامهم مقاصده فى تذوق المعانى للأخذ بما تقبله الفطرة،
والإعراض عن ما لا معنى له، ولا أدل على ذلك من تشريع الإسلام للأعياد،
وتعامله مع أعياد أهل الجاهلية بهذا المعيار المميز بين الغث والسمين، فعندما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة وجد اليهود بها يعظمون يوم عاشوراء، ويتخذونه عيداً، فلم ير بأساً من تعظيم هذا اليوم
فى الإسلام عندما علم سببه الصحيح، كما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة
يلعبون فى يومين كل سنة، فانصرف عنهما لما علم عبثية أصلهما،
ونوضح ذلك فيما يلى، وللحديث بقية.