انتهينا إلى أن أحكام الإسلام فى العبادات والمعاملات تبنى المسلم على استقلال شخصيته
باستفتاء قلبه لقيادة نفسه دون تركها فريسة لأوصياء الدين وتجاره، وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم،
كان يدرب أصحابه على ذلك مستثمراً تدرج التشريع، وأخذنا نموذج التمييز بين الغث
والسمين فى أعياد الجاهلية، حيث قبل الرسول، صلى الله عليه وسلم، تعظيم عاشوراء لصحة سببه،
وأبطل تعظيم اليومين اللذين كانوا يلعبون فيهما دون معرفة أصلهما المقنع. ونوضح ذلك فيما يلى:
(1) أما يوم عاشوراء الذى أبقى الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمه لصحة سببه،
فيدل عليه ما أخرجه مسلم عن أبى موسى الأشعرى،
قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم،
فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «فصوموه أنتم»، وأخرجه الشيخان عن أبى موسى،
وأخرجه مسلم عن ابن عباس، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، دخل المدينة وإذ أناس من اليهود
يعظمون عاشوراء ويصومونه، فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذى أظفر الله فيه موسى
وبنى إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:
«نحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه وأمر بصيامه.
(2) وأما اليومان اللذان كان أهل المدينة يلعبون فيهما كل سنة، وانصرف الرسول عنهما لعبثية سببهما،
فيدل عليه ما أخرجه أبوداود بإسناد صحيح عن أنس قال: قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة
ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان»؟ قالوا: كنا نلعب فيهما فى الجاهلية،
فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما الأضحى والفطر»،
ونظراً إلى أن صلاة العيد لم تشرع إلا فى السنة الثانية من الهجرة، فغالب الظن أن الرسول، صلى الله عليه وسلم،
ترك أهل المدينة وشأنهم فى هذين اليومين من السنة الأولى من الهجرة من باب التدرج فى الأحكام،
ثم أفاقهم عن أصل اتخاذ هذين اليومين، فلم يجد سبباً صحيحاً إلا التبعية العمياء بدون أصل معروف،
وهذا هو العبث الذى إن قبله من باعوا عقولهم وارتضوا بالإمعية، فلا يقبله مسلم عرف الله، وهو الحق،
بحق، فمن عرف الحق لم يعد راضياً باتباع غيره؛ لأن الله يحاسب كل إنسان على قدر عقله وعلمه وإمكاناته
وليس على قدر عقل أخيه وعلمه وإمكاناته، كما قال سبحانه: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (البقرة: 286)،
وقال تعالى: «لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها» (الطلاق: 7).
هكذا نتعلم من العيد فى الإسلام الاستقلال فى قيادة النفس. فالإسلام هو دين العلم، والعلم يقوم على التعلم
بالتلقى والأخذ، والتعليم بالأداء والممارسة فى كل مرحلة من مراحله، وهكذا سائر العلوم والفنون،
ومنها العلوم الشرعية التى لا يصح أن تكون عالة على غيرك فيها؛
لما أخرجه البخارى عن عثمان بن عفان،
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وجاء فى بعض الألفاظ عند بعض الشراح:
«خيركم من تعلم العلم وعلمه»، إنك إن لم تمارس حقك فى العلوم الشرعية بالاحتكام إلى قلبك
الذى لا يكذبك، وعقلك الذى هو مقاسك، فستقع فريسة لتجار الدين وأوصيائه، وسيحملونك على هواهم،
أو قد يكلفونك ما لا يستوعبه عقلك فتمارس العبادة بغير قناعة، فلا تؤجر عليها؛
لقوله تعالى: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعاً» (الكهف: 103، 104)، وأخرج الشيخان عن عمر بن الخطاب،
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات»، فلا عمل مقبولاً بدون إرادة صاحبه ونيته
وعزيمته النابعة من ذاته باستقلال نفسه وليس الإمعة أو التابع.
إن لكل إنسان أعياداً شخصية سوى أعياد شعائر دينه العامة، وهى أعياد الاستقلال بقيادة نفسه،
فاليوم الذى استقل فيه الإنسان بإطعام نفسه وشرابه عيد له، واليوم الذى استقل فيه بقراءة خطابه عيد له،
واليوم الذى استقل فيه بقيادة سيارته عيد له، واليوم الذى استقل فيه بتحمل مسئولية أسرته عيد له،
وكذلك أيضاً فإن اليوم الذى يستقل المسلم فيه بالفتيا لنفسه عن طريق قلبه -مع تعلمه من أهل الذكر
دون تركهم يفتئتون عليه- عيد له، واليوم الذى يستقل فيه بتحديد مكان صلاته من بين المساجد -
وليس بتحديد أميره- عيد له، واليوم الذى يستقل فيه باختيار صاحبه والاستماع إلى من يريد من أهل العلم
-وليس بتعليمات قائده- عيد له، واليوم الذى يستقل فيه باتخاذ قرار مشاركته السياسية
وتوجيه صوته الانتخابى حيث شاء بقناعته -وليس بأوامر حزبه- عيد له.
إن المحرومين من الاستقلال محرومون من أعياد كثيرة، فما أجمل الحرية التى عظّمها الإسلام،
وما أحلى طعمها الذى ذاقه المجربون،
كما فى عموم قوله سبحانه: «قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومى يعلمون
بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين» (يس: 26، 27).