مازلنا مع تفسير عبدالله بن عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما،
لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» (البقرة: 193)،
حيث يرى أن القتال شرع فى الإسلام فى حالين لا ثالث لهما.
الأول: حال الفتنة؛ لإخمادها. مثل قتال أبى بكر الصديق لأصحاب الحركات الانفصالية من المرتدين ومانعى الزكاة.
الثانى: حال الوصاية الدينية؛ لإسقاطها. مثل الفتوحات الإسلامية التى كانت تسقط الأنظمة الفاشية
التى تمنع الناس من التديّن بالإسلام أو بغيره مما تريد.
ويرى عبدالله بن عمر أن القتال للوصول إلى الحكم، أو القتال للحفاظ على الحكم فى ذاته ليس قتالاً مشروعاً،
وإنما هو قتال محرّم يدعو إلى الفتنة لإحداثه الهرج والتخاطف وهتك الأعراض بغير حق،
كما يدعو إلى أن يكون الدين لغير الله لتمكينه بعض المخلوقين الزاعمين معرفة حقيقة الدين
من فرض وصايتهم على الآخرين، وكأن عبدالله بن عمر يعظ أتباع التيار السياسى الواصف نفسه بالإسلامى
فى عصرنا الحاضر، بموقعة صفين وما تلاها من حروب طلباً للحكم وما وقع فيها بما ينصح المعاصرين
أن استماتتهم على طلب الحكم غير مأجورة، وأن استقواءهم بالخارج من أجل استعادة الحكم غير مشكور،
وأن إعدادهم القوة المضادة لإضعاف الحكم القائم والسيطرة عليه هو الفتنة بعينها،
ويزيدها سوءاً أن يكون ذلك باسم الدين الذى يتبرّأ من كل فاشية وعصبية ولو تحت راية الإسلام.
ماذا استفاد الناس من موقعة صفين سنة 37 هـ إلا الدمار والخراب بين أتباع الإمام على رضى الله عنه،
الذين بايعوه على الإمارة بالعراق واستثاروه على معاوية رضى الله عنه، الذى بايعه أهل الشام على الإمارة،
وكان جيش الإمام على سبعين ألفاً فيهم تسعون بدرياً وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان،
وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وكان جيش معاوية خمسة وثمانين ألفاً. والتقت الفئتان بصفين
ودامت الحرب مائة وعشرة أيام، فقتل من أهل الشام سبعون ألفاً، ومن أهل العراق عشرون ألفاً.
وآل الأمر إلى التحكيم، ثم رجع الإمام علىّ إلى العراق واستقر بها أميراً بعد انشقاق كثير من جنوده عليه
إلى أن قُتل سنة 40 هـ، فبايع أكثر أهل العراق ابنه الحسن
الذى تنازل عن الحكم لمعاوية من أجل وحدة الصف سنة 41 هـ، وسُمى هذا العام بعام الجماعة.ٍٍ
واستقر الحكم لمعاوية إلى أن مات فى سنة 60 هـ، وكان قد أخذ البيعة من بعده لابنه يزيد.
وقد رفض أكثر الناس البيعة ليزيد، فاستقلت العراق وبايعت الحسين رضى الله عنه، حتى قاتله يزيد وقضى عليه.
كما استقلت الحجاز وبايعت أمراء إلى أن اجتمع أمرها على عبدالله بن الزبير سنة 64 هـ.
وهو أول مولود فى الإسلام بعد الهجرة، وأبوه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأمه أسماء ذات النطاقين،
وخالته عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وجدته لأبيه صفية عمة النبى صلى الله عليه وسلم،
وعمة أبيه السيدة خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها، واستقر حكم الحجاز والعراق ومصر ونصف الشام له
تسع سنوات متتالية عجز خلالها يزيد بن معاوية ومن جاء بعده عن المساس بإمارته
إلى أن وُلى عبدالملك بن مروان الخلافة فى الشام، فاستعان بعد سبع سنوات من خلافته بالحجاج بن يوسف الثقفى
ليكون قائد جيشه فى القضاء على عبدالله بن الزبير، وتحقق له ذلك سنة 73 هـ،
ولكن على حساب الدين والإنسان، كما نوضحه فيما يلى:
(1) أما الدين المظلوم فقد استغله ابن الزبير فى تلقى القاصدين للحرمين الشريفين وحملهم على أخذ البيعة له.
كما أساء إليه عبدالملك بن مروان عندما منع مواطنيه المسلمين من الذهاب للحج،
خشية منهم أن يبايعوا ابن الزبير، وعندما ضج الناس من منعهم من الحج بنى عبدالملك بن مروان قبة الصخرة
فكان الناس يقفون عندها يوم عرفة. هكذا بِيع الدين من أجل الحكم.
(2) وأما الإنسان المظلوم، فقد سقط منه الخلق الكثير بغير حق، وحسبنا الإشارة إلى حرب الاستنزاف
التى قادها الحجاج فى مواجهة استقواء ابن الزبير بالحرمين، فلم يتورّع الحجاج فى سبيل البحث عن الحكم
بأى ثمن أن يقتل وأن ينهب كل القاصدين إلى الحج أو العمرة؛ ليعزل ابن الزبير عن القوة حتى احتمى بالكعبة،
فقذفها جيش الحجاج بالمنجنيق (المدافع بالحجارة) وهدمها، وتمكن من ابن الزبير وصلبه على باب الحرم.
هكذا بِيع الإنسان ودُنّست الكعبة من أجل الحكم.
لكل هذا امتنع ابن عمر عن صراع السلطة واتهم طالبى الحكم بالقوة بأنهم أهل الفتنة
وأنهم الجاعلون الدين لغير الله، وقال: نحن مع من غلب؛ بحثاً عن الأمن
وحتى يتمكن الإنسان من الإعمار وحسن العبادة فى ظل حكم قوى.